كشفت عملية اغتيال الرئيس الشهيد بروفسور محمد مرسي الكثير من تفاصيل مخططٍ لإسقاط العالم العربي وإبقائه على وضعه الحالي من الضعف والتمزق والانحطاط، كما وأسقطت الكثير من الأقنعة عن الكثير من الوجوه التي كان من المفروض أن تكون منحازة بالكامل لمخرجات الثورات العربية ونتائجها ذات الصلة بنقل العالم العربي من واقع الاستبداد والدكتاتورية والفساد والارتهان الخارجي، الى واقع جديد عنوانه الكبير الديموقراطية والحرية والتعددية وتداول السلطة السلمي، والنهضة والازدهار والعزة والكرامة الوطنية.. أهم ما في هذا المشهد العربي عودة الجدل/الصراع القديم بين التيار القومي والتيار الإسلامي، والذي ظننا أنه كان في طريقه الى الزوال بعد أن انطلق قطار التعاون والتنسيق بين التيارين المركزيين في الوطن العربي منذ عقود تحت مظلة المؤتمر القومي – الإسلامي الذي شكل منعطفا مهما في حياة الأمة العربية، أسس لمرحلة جديدة ظننا للحظة انها ستكون نهاية حقبة سوداء سادها مشهد الدماء والاشلاء، وبداية مرحلة جديدة يسودها التعاون والاصطفاف تحقيقا لمجموعة من الأهداف وعلى رأسها النهوض بالعالم العربي، وتحريره من كل أنواع الاحتلال الداخلي والخارجي. كان التفاؤل سيد الموقف خلال عقودٍ بُذلت فيها جهود كبيرة في إطار المؤتمر القومي الإسلامي في سنوات التسعين رأبا للصدع، وتقريبا لوجهات النظر، حيث شارك مفكرون قوميون وإسلاميون في الحوار، أخرجوا لنا خلاله تراثا غزيرا كان من المفروض ان يؤسس لحقبة جديدة من العمل المشترك مستفيدين من تجارب الماضي التي أثبتت انها لم تكن في صالح الأمة ومستقبلها.. إلا أن التطورات التي تلت نجاح الثورات في بعض الدول العربية (مصر وتونس كنموذج)، كشفت الى حد كبير “زيف” تلك المحاولات، وعجزها عن تحقيق تغيير عميق في ثقافة عقود متطاولة من الزمن سادها الشك وعدم الثقة، وصبغتها دماءٌ سُفكتْ، وارواحٌ أُزهقتْ، وسجونٌ امتلأتْ، ومشانقُ عُلِّقَتْ، كان ضحيتها الآلاف من القيادات والكوادر الإسلامية الذي طحنتهم آلة أنظمة الاستبداد القومية في أكثر من بلد عربي (مصر وسوريا كنموذج).. يبدو أن تلك المحاولات ما كانت إلا رماداً أخفى جمر الخلافات إلى حين. من تجليات هذه المصالحة بين التيارين او هكذا ظننا، وقوف كوادرهما جنبا الى جنب في كل الميادين التي احتشدت فيها شعوبنا العربية تحت شعارها الأشهر: “الشعب يريد إسقاط النظام”.. وقف في هذه الميادين الإسلامي الى جانب القومي، واليساري الى جانب اليميني، والعلماني الى جانب المتدين، ووقفت المحجبة الى جانب السافرة، في تناغم غير مسبوق سعيا وراء هدف أصبح قريبا أكثر من أي وقت مضى، إسقاط الأنظمة المستبدة وفتح الطريق أمام مرحلة جديدة من الحرية التي لطالما تاقت اليها شعوبنا العربية وخصوصا قطاع الشباب الذين تحملوا في سبيل هذا المشروع أكثر من غيرهم.. (1) من أجل ان نفهم هذه الثنائية، سآخذ (مصر) كنموذج يصح إسقاط نتائجه على كافة تجارب ثورات الربيع العربي والتي أثبتت كلها زيف توجهات التيار القومي – الليبرالي – العلماني للمصالحة مع التيار الإسلامي الذي اندفع مخلصا في هذا الاتجاه دون النظر الى ما جبته أنظمة الاستبداد القومية من دماء قياداته وكوادره على مدى عقود من الزمن، أو على الأقل التوافق على آلية ديموقراطية لا مساومة عليها تكون هي الحاكمة لمبدأ التداول السلمي للسلطة بعيدا عن كل أشكال اغتصاب السلطة وتزييف إرادة الشعب، واعتماد “صندوق الاقتراع” ليكون حَكَماً عدلا بين الفرقاء، يحدد الشعب من خلاله من يكون في رأس السلطة ومن يكون في موقع المعارضة البناءة.. بدأت الحقائق تتكشف مع بداية “قطف” ثمار نجاح ثورة 25 يناير وتنحي مبارك عن السلطة.. فجأة اندلعت نار تلظى اوقد عليها التيار القومي – الليبرالي – العلماني حتى حرقت إنجازات الثورة تماما، وهيأت أفضل الظروف لأعداء الثورة من قيادات الجيش والشرطة والمخابرات والاعلام والقضاء وأذرع الدولة العميقة المختلفة، لإيقاع الثورة في الفخ والانقلاب عليها عسكريا، الأمر الذي أوقع مصر وشعبها في شَرَكٍ مسموم، وأدخلها نفقا مظلما اعادها الى أوضاعٍ هي أسوأ بكثير مما كانت عليه في عهود الرؤساء السابقين منذ ثورة 23 يوليو 1952 وحتى الآن.. أستطيع التأكيد هنا أن انقلاب التيار القومي – الليبرالي على منجزات الثورة لأسباب لا علاقة لها بقيم الديموقراطية والحرية، وإنما جاء بسبب خلل خطير في تفكير هذا التيار الذي ما زال يؤمن بالقول المعروف: “إما انا، وإلا فليأتي من بعدي الطوفان!!”، والذي لا يمكن ان يُفهم إلا في سياق نزعة الاستبداد تحت راية القومية والليبرالية، وكأن هذا التيار لم يستخلص العبر من تجاربه القديمة الحديثة التي جَرَّتْ على الأمة العربية الويلات والكوارث، فعاد ليمارس نفس الدور منحازا إلى “العسكرتارية” من جديد لمجرد ان الانتخابات الديموقراطية الفريدة التي جرت في مصر لم توصلهم الى السلطة التي كانوا يتمنون الوصول اليها عبر مخرجات ثورة 25 يناير، فلما لم يتحقق ذلك، انقلبوا على أعقابهم، ورفعوا شعارهم القديم: “إما نحن، وإلا فلتذهب الديموقراطية والحرية إلى الجحيم، ومرحبا بالعسكر..!!”… (2) في الوقت الذي كان من المفروض أن تلتف القوة القومية – الليبرالية حول إنجازات الثورة منعا لعودة الدولة العميقة مرة أخرى، وفي الوقت التي كانت الثورة والثوار يواجهون اخطر التحديات الوجودية في مواجهة القوى الخفية المتربصة بالثورة، كان من اللافت للانتباه في هذا المشهد المبكي أن اوساطا وتيارات محسوبة على الليبرالية والعلمانية والحداثوية، والقوى القومية والمدنية من الذين كانوا شركاء في الثورة على النظام المصري القديم، سرعان ما انقلبوا على شركائهم لمجرد ان الجولات الانتخابية التي تلت نجاح الثورة في مصر دفعت بسواهم وبالذات الاخوان المسلمين الى منصة الحكم على المستويين البرلماني والرئاسي، إضافة الى مصادقة الشعب على الدستور الجديد الذي صُنِع على عين هيئة دستورية ما عرفت مصر مثيلا لها في تاريخها خبرة ونزاهة وموضوعية وحيادية وتغليبا للمصلحة الوطنية العليا على كل المصالح الاخرى.. انتظمت هذه القوى في إطار ما سمي في حينه ب – (جبهة الإنقاذ ” الخراب” الوطني) والتي تشكلت في 22 تشرين ثاني/نوفمبر 2012، جمعت في صفوفها خمسة وثلاثين حزبا سياسيا وحركة سياسية وثورية وجميعها ذات أيدولوجيات قومية – ليبرالية ويسارية، من أبرز شخصياتها محمد البرادعي وحمدين صباحي وعمرو موسى وعمرو حمزاوي ومحمد أبو الغار وأسامة الغزالي حرب وجورج اسحق وغيرهم. قادت هذه الجبهة مدفوعة بأحقاد دفينة وإحباطات عاصفة لفشلهم في أكثر من استحقاق انتخابي، أسوأ ثورة مضادة في مصر مهدت للانقلاب العسكري الدموي الذي امتطى ظهرها حتى إذا وصل إلى أهدافه انقلب بدوره عليها ونفاها الى صحراء السياسة، فتبخرت قياداتها وكوادرها التي ملأت شوارع مصر صخبا وتخريبا وقتلا وسحلا وتدميرا لمؤسسات الدولة وتقويضا لأسسها المدنية على مدى العام اليتيم الذي (حكم!!) فيه الشهيد الدكتور محمد مرسي كرئيس، فلم تحس لهذه المعارضة بعدها من أحد او تسمع لهم رِكْزا. تحالُفُ أكثر القوى والحركات والأحزاب القومية – الليبرالية والأخرى الاسلاموية (النور والسلفيين) مع العسكر، ودعمهم العلني لحراك الثلاثين من حزيران/يونيو، وانقلاب الثالث من تموز/يوليو العسكري ضد اول تجربة ديموقراطية حقيقية في مصر بعد قرون من الملكية وعقود من الدكتاتورية، أثبت بما لا يدع مجالا للشك خيانتهم لمبادئ وقيم القومية والليبرالية من جهة، وسقوطهم الأخلاقي في معركة الحرية والديموقراطية، وانحيازهم للانقلاب العسكري الدموي الذي أعاد مصر لأكثر عهودها سوادا وإجراما، وتقديمهم مستقبل مصر واجيالها القادمة قربانا على صخرة ثاراتهم القديمة من التيار الإسلامي. ارتكب التيار القومي – الليبرالي بذلك جريمتين كبيرتين. الأولى، دعم الانقلاب العسكري والتسبب في غرق مصر في مستنقع الديكتاتورية والاستبداد والدم من جديد، وهذا ما يحصل بالفعل تحت سلطة الانقلابي المجرم عبدالفتاح السيسي. الجريمة الثانية، قتلهم لأمل الشعوب العربية في التقاء التيارين الإسلامي والقومي – الليبرالي على كلمة سواء تكون رافعة لنهضة الأمة واستقلالها الحقيقي.. (3) يظهر هنا الفرق الواضح بين سلوك المعارضة القومية – الليبرالية – العلمانية التركية في مواجهة الانقلاب العسكري الفاشل بتاريخ 15 تموز/يوليو 2016، وبين مثيلتها المصرية في سلوكها تجاه الانقلاب العسكري في 3 تموز/يوليو 2013 .. استوعبت المعارضة التركية دروس الماضي ووصلت الى قناعة ان مستقبل تركيا مرتبط أساسا في إقامة نظام ديموقراطي متطور وحقيقي يضمن ويتيح لجميع القوى السياسية والايدولوجية الفرصة المتساوية لممارسة حياة سياسية ترتكز أساسا الى طروحات الأحزاب وإرادة الشعب صاحب الحق الوحيد في تحديد من يحكمه، وشكل الحكم الذي يرتضيه لنفسه. لذلك لم يكن غريبا ان تقف المعارضة التركية ضد الانقلاب لا دعما لحزب العدالة والتنمية، ولكن دعما للشعب التركي وحقه في العيش حرا بعيدا عن تجربة الانقلابات العسكرية المرة. المعارضة المصرية في المقابل فشلت في هذا الامتحان الدقيق والحساس، فبدل ان تقف في مواجهة الانقلاب العسكري الذي خبرته على مدى 60 عاما، ووقفت على نتائجه الكارثية والتي بسببها شاركت في ثورة 25 كانون ثاني/يناير 2011، خدمة للتجربة الديموقراطية الوليدة، انحازت المعارضة الى الانقلاب وتسببت في أكبر كارثة سياسية ستعاني منها الأجيال القادمة إذا لم تتدارك قوى التغيير الثورية المصرية كلها الامر وتنهض لاستكمال الثورة وهزيمة الانقلاب مهما كلفها ذلك من ثمن. لم تستوعب المعارضة المصرية لأسباب انتهازية مصلحية وانانية قصيرة المدى أن الضمان الوحيد لنهضة مصر يكمن في تمكين الديموقراطية وبناء مؤسساتها، وتعزيز قيم الحرية والتعددية وتداول السلطة السلمي على قاعدة الشعب كمصدر للسلطات وصندوق الاقتراع كَحَكَمٍ وحيدٍ لفض المنافسات السياسية، ورفض الانقلابات العسكرية ناهيك عن ان يكون للعسكر أي دور في الحياة السياسية او الاقتصادية. لم تستوعب المعارضة القومية المصرية كمثيلتها التركية أيضا أن حقدها و/او تحاملها وكراهيتها للتيار الإسلامي لا يمكن ان يبرر دعهما للانقلابات العسكرية وتضحيتها بإرادة الشعب، فتكون بذلك كمن يجدع انفه بيده. دعم الحياة الديموقراطية وتحسين أداء الأحزاب وتطوير طروحاتها وبرامجها السياسية لكسب ثقة الشعب، وليس الانقلابات العسكرية، هو الطريق الوحيد لبناء دولة مدنية حديثة نامية ومتطورة وقوية. تطورات الاحداث بعد الانقلاب العسكري في مصر مرورا بمجازر رابعة والنهضة وليس انتهاء باغتيال الرئيس الشرعي بروفسور محمد مرسي بتاريخ 17.6.2019 بعد عملية قتل بطيئة استمرت لست سنوات داخل السجن الانفرادي الذي حرم فيها الرئيس الشرعي من حقوقه الطبيعية في حدها الأدنى.. هذه التطورات اثبتت مسألتين اثنتين. الأولى، ان الصراع في الدول العربية ليس بين الإسلاميين والقوميين – الليبراليين – العلمانيين، وإنما هو بين القوى التي تؤمن بالديموقراطية الحقيقية إسلامية كانت او ليبرالية، وبين قوى الظلام والدكتاتورية والاستبداد والاستئصال سواء كانت اسلاموية او ليبرالية. المسالة الثانية، أن الإسلاميين وعلى رأسهم حركة الاخوان المسلمين ومعهم بعض القوى الليبرالية هم الوحيدون على الساحة العربية الذين يؤمنون حقا وحقيقة بالديموقراطية وتداول السلطة السلمي عبر صناديق الاقتراع، بينما اثبت غيرهم من القوى القومية والعلمانية انها ليست أكثر من كذبة كبرى تتاجر بالقيم الديموقراطية بقدر ما تخدم مصالحها، والا انحازت الى العسكر وانطوت تحت جناحه ورضيت ان تكون تحت حذائه الثقيل، واكتفت منه بما يتساقط من موائده من فتات لا يسمن ولا يغني من جوع. (4) خسرت مصر والأمة العربية والإسلامية واحرار العالم كثيرا بغياب الرئيس بروفسور محمد مرسي عن المشهد قتيلا على يد السيسي وعصابته الدموية.. مصر لم تعد دولة كما هي كل الدول في ظل الانقلاب العسكري الذي دمر كل مؤسساتها، وأفقر شعبها، وأذل اهلها، وجَرَّفَ حياتها، وهدها تحت ثقل مديونيتها، ودمر اقتصادها، وفتت وحدتها الاجتماعية، وقتل شرفاءها، وسجن زعماءها ومفكريها وقياداتها، وحاصر القوى الحية فيها، وأباح للأعداء أرضها وثرواتها، واحتكر سلطتها وثروتها، واستبد بحكمها، وبلغ في العدوان حد الحط من دينها ورموزها وتاريخها وثوابتها.. إلا ان أكثر ما خسرت مصر، إنسانيتها.. لم يعد في مصر نظاما وحكاما وعسكرا وشرطة ومخابرات وقضاء وإعلاما، وقوى سياسية (إلا من رحم الله)، أية إنسانية من أي نوع ولو في حدها الأدنى…. هذه الصراع الدائر اليوم في مصر وفي عالمنا العربي كشف ايضا عمق الأزمة التي يعاني منها التيار القومي الليبرالي – العلماني (بدون تعميم) والذي – مع الاسف – لم نسمع له صوتا واضحا وقويا وحاسما حيال جرائم الانقلاب واغتيال الرئيس مرسي، وهم اللذين كانوا سببا مباشرا في نجاح الانقلاب وإعاقة نهضة مصر بوقوفهم الهمجي في وجه اول تجربة ديموقراطية في تاريخها، وانتهى بهم الامر الى حملوا العسكر الى السلطة ظنا منهم ان ابواب الحكم ستفتح لهم بعد تغييب “خصومهم!!” الاسلاميين عن المشهد..! فاكتشفوا سريعا ما كان واضحا كالشمس، ان العسكر ان عادوا مرة أخرى إلى الحكم فلا مكان لغيرهم الا في القبر او السجن، ولا منجاه لأحد الا بإعلان الولاء لهم والخضوع لإرادتهم! هذه التيار القومي – الليبرالي – اليساري الاستئصالي الحاقد، رأينا نموذجا فجا ووقحا من نماذجه في البرلمان التونسي، حيث وقفت إحدى النائبات من هذا التيار لتعلن رفضها لمجرد قراءة الفاتحة على روح الرئيس مرسي، واندفعت مزمجرة ومعلنة انها ستعتبر “حركة النهضة” إن هي وافقت على قراءة الفاتحة، ستعتبرها “اخوانا مسلمين” وبالتالي ستطالب بتصنيفها حركة “ارهابية!!”، فقط ان قبلت بقراءة الفاتحة على روح ايقونة الحرية في العالم العربي.. هذه النائبة لا تمثل نفسها وانما تمثل تيارا عابرا للحدود، ما زال يعتقد انه لا مكان للإسلام ولا للإسلاميين في اية معادلة تهدف الى نهضة الامة العربية والاسلامية!! الحقيقة ان استمرار مثل هذا النهج القومي – العلماني – الليبرالي – الاستئصالي في نفث سمومه، سيؤخر نهضة الأمة ربما لمئات السنين القادمة، وسيعمق ازماتها ويزيد المشهد ارباكا والمستقبل ظلمة وسوادا، وسيغلق الباب على اية فرصة للتعاون بينه وبين التيار الإسلامي الذي يعتبر وبكل المعايير القوة الأولى في العالم العربي… * الرئيس السابق للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني