في غشت 1970 هاجر أديبنا الاستاذ محمد لمسوني إلى فرنسا و سنه لا تتجاوز العشرين يحمل حقيبة سوداء تحتوي على ملابس صوفية و كتبه المفضلة. تمكن من الحصول على عقدة شغل كعامل متخصص في الميكانيكا العامة بأكبر مصانع الحديد الصلب شرق البلاد بجهة لاموزيل على الحدود الألمانية البلجيكية و كان مقر سكناه لا يبعد عن الليكسومبورغ إلا ببضعة كيلوميترات. لأول مرة يركب القطار. لم يسافر أبداً بعيداً. لا يعرف من المغرب سوى الدارالبيضاء و المحمدية و الجديدة. آنذاك كان جل العمال المهاجرين الجدد يلتقون بالمكتب الوطني للهجرة (الفرنسي) ، يتسلمون العقدة و الجواز الخاص بفرنسا و إسبانيا و تذكرة القطار و الباخرة للعبور من طنجة و علبة فيها خبز و علب سردين و عصير. ودعته أمه و خاله في المحطة أما الأب فتركه في البيت يذرف الدموع كالخنساء لأنه كان ضد فكرة هجرة إبنه الوحيد ما أن حط الرحال بديار الغربة حتى تفتقت قريحته عن قصيدته الأولي في المهجر و كانت فاتحة ديوانه الأول “قطرات دم : يوميات عامل مهاجر” . سأورد النص بكامله الحامل عنوان “المهاجر” : هجرت وطني بحثاً عن العطر و الزمن عن الجميل الحسن هجرت أمي و أبي هجرت شمس العرب مياه الحب لا تجود بقطره ! طرق السياجات و الحدود كم مره ! جدي عاش في العذاب و أبي أحرق الشباب إلا أنا الإبن الوحيد…حطمت الباب تركت حبيبتي الغاليه و مدينتي العاليه و ذكريات داميه جمعت حقائبي الخاويه هجرت وطني إلى منفى الشجن… و لعل عناوين القصائد ستزودنا بفكرة عن الثيمات التي يتناولهاالأديب الأستاذ محمد لمسوني و سنرى أنها لا تخرج عن سياق الهجرة و المهاجرين : ليالي الغربة ،أنت المعاد،العامل في الخارج ،الغريب ،عيد الأم ،لا تقل ما زال على قيد الحياة ،مصير،غربة بلا قلب ،غريب في الليل، إنها فرنسا، يا قدري المجنون، لا تبكي يا أمي، رسالتان، بضع كلمات لسيدة شقراء،غربوك ،رسالة إلى واسعة المقلبين، إلى صديق قديم، يا بعيده ،عذاب في كل مساء،عيون لا تنام ،في انتظار الصباح، لا تطفئ الشمس، الخ…. و كنماذج و أمثلة سنقتطف بعض الأبيات من بعض القصائد حتى نتمكن من التحليق شيئاً ما و لو بطريقة سطحية في أجواء عالمه الشعري طالت غربتي و ما قصرت محبتي يقول الفؤاد : “أنت المعاد!” (…) ليالي الغربة..دموع و حنين شوق و أنين ليالي بلا نجوم بلا قمر يحوم ليالي تاه شبابي فيها رحلة في منفى عينيها عيون أمي عيون حبيبتي عيون شعبي فكلنا يا رب غرباء لنا الجوع و العراء إرحمنا..فنحن تعساء…. (…) إن سألوك يوماً عني قل لهم : مات شهيد التجني غاب في ثرى اليأس و ولى حطاماً بلا تمني. أمسى ساكتاً في حداد لا يغني قل لهم : مات…مات… لا تقل ما زال على قيد الحياة ! (…) هل ألاقي في ديار الغربة حتفي أو أظل أبداً..أًبداً…منفي أو يحن الله و يزول همي يحن الله و أعود إلى أمي ؟؟؟ (…) أينك يا بيضاء البيوت ؟.. سيدة العهر و السكوت..فلن تشيخ مأساتي..طفلة على الدوام..تلهو بلا انتظام..لست أيوب و لا حديد..فمرحباً بالجديد!..تموء القطط في الليل البارد..يرتجف الهابط و الصاعد..يشل القدم و الساعد..و أظل قاعد..أموء في ركني الهامد..دنسوا بأرجلهم القمر..أو ليس لي الحق أن أضع رجلي على الأرض كالبشر..في بستان المدينه..مع أمينه ؟؟؟ (…) أيها الغريب الضال في ليل المدينة الكبيره ترى ماذا تريد و ليس لك غير جواز و حيره ؟؟ (…) يا قدري الظالم ياعذابي الناعم أتراك سترحم فؤادي و أعود إلى بلادي ؟؟ (…) قولوا لأمي لا تبكي و عن أحزاننا لا تشكي هنا..أنا غريب و هناك.. أنت غريبه يا أمي ..يا حبيبه ! (…) شكوت لله من باعوني للزبانيه إلى الحديد الصلب و أفران النار الحاميه (…) أنا هنا… عيوني لا تنام جفوني قرحتها الآلام إلهي لا يرحم في الجحيم يذوب شبابي..بلا آثام فلن تنام عيوني و تقر جفوني و تحلق في فضاء النجاح لحوني حتى تقوم الساعه يوم القيامه ترسو سفينتي في الميناء في البيضاء عندئذ أمزق الجواز الأخضر و أعانق التراب المعطر ! رصيد الأديب لاستاذ محمد لمسوني الشعري في حقل الهجرة و المهاجرين ضخم للغاية، و قد صدقت الكاتبة الإيطالية حينما سطرت بمداد الموضوعية أنه حقاً شاعر الهجرة (أنظر جريدة لاسطامبا ، 24 مايو 2003 ). يتسم بالضخامة لكون الرجل عاش 12 سنة بفرنسا و 20 سنة هنا بإيطاليا و لم ينقطع بتاتاُ عن كتابة معاناته مع الغربة و الإحباط و السقم وآفات التمييز العنصري. قاوم نوائب الدهر بسلاح الكلمة الصادقة المعبرة. بأسلوب عفوي يتميز بالسلاسة و الشفافية. كان يكتب لإخوانه المهاجرين بالأسلوب الذي يفهمونه بعيداً عن السفسطة و الغموض و التعتيم. و كان وما يزال صوت الذين لا صوت لهم و لسان حال كل المهاجرين الذين تجرعوا مثله مرارة التنائي عن أرض الوطن الحبيب. تناولنا فقط النصوص العربية لضيق المجال. و أتمنى أن أعود إلى هذه المقالات مشذباً و متعمقاً لكي تجد مكانها الطبيعي في كتاب واخونا الأديب الاستاذ محمد لمسوني يستحق هذه الإلتفاتة لانه فعلا كما يعرفه المهاجرون المغاربة والعرب وابناء الجالية الاسلامية انه رجل مؤمن بانتمائه الاسلامي وكاتب مرموق له صمعته ومكانته بين الكتاب العرب وان كانوا قلة وبين الكتاب الايطاليين الذين تذوقوا شعره وكتاباته لانه بكل صدق اقولها انه كاتب وشاعر مميز بتواضعه واخلاقه ونبله .