“كما أكدنا ذلك، فإنَّه لا يمكن اختزال هذا النموذج في الجانب الاقتصادي فقط، وإنما هو مشروع مجتمعي متكامل، يهدف للارتقاء بالإنسان وصيانة كرامته ، ويجعله في صلب عملية التنمية ” فقرة من الخطاب الملكي السامي. ننطلق من التأكيد على أنَّه واهِمٌ من يعتقد أن خَلْفِيَّتَهُ الثقافية و مَرْجِعيَّتَهُ الفكرية هي الضامن الوحيد و الأَوْحَد لِتطوير المنظومة التحديثية و إصلاح أعطاب الجهات الترابية. وبالتالي فإن إحقاق مكتسبات الجهوية المتقدمة و بلوغ مستويات التنمية الوطنية المتوازنة يستوجبان وثبة الثقافات المحلية نحو العمق الإبداعي البارع و المدى الحضاري الواسع ، من خلال اعتماد منظار ثقافي متعدد الأبعاد يتجاوز بهرجة الإحتفاء الفولكلوري بالتراث الشعبي نحواعتماد نهج تَثْقيفي مُجدِّد يسري بين شرائح ” العقل الشعبي ” بتنوع خصوصياته المحلية . وذلك وفق تشريح علمي لا يربط فقط النتائج بالمُقدِّمات بل يعمل على جعل مجموع الثقافات المحلية متضامنة ، مؤهلة و قادرة على الدفع بالوطن المغربي المُوَحَّدِ قصد اللحاق بالركب الحضاري المُتَقدِّم . لأَنَّ مبدأ التعددية المُتَساوِية المُعبرة عن خصوصيات الثقافات المحلية هو الذي يضمن القدرة على احتضان مكونات المجتمع المغربي قصد الإنطلاق بأمل مع العمل على رفع التحديات المشتركة التي تخص إيجاد السبيل التنموي المغربي الجديد القادر على التقليص من الفوارق الثقافية و الإجتماعية و المجالية ، بشكل يضمن لنا الإنفتاح – دون تردد – على القيم الكونية البناءة و المناهج العلمية الرائدة التي تجعل من المنظومة التعليمية فضاءا عموميا منتجًا لأجيال جديدة ، وفق رؤية إصلاحية محلية ثاقبة تعمل على تطوير دينامية المجتمع المحلي و المؤسسات و تفاعل العلاقات الاجتماعية المحلية مع زمن التقنية و الذكاء الاصطناعي . إذ يستحيل الإنتماء إلى الفسيفساء الحضاري العالمي إلاَّ بتقديم الإضافة النوعية للمنتوج المحلي الأصيل. و لعل كوارث التنافر السياسي ، الاجتماعي و التربوي بالمغرب و فواجع الإنزلاقات الاحتجاجية، توضح بجلاء أن الجواب الثقافي الحالي يعيش على واقع الفشل في بناء حداثة مغربية سليمة تخلص المجتمع المغربي من تفشي مظاهر التواكل و الاستيلاب ، و غلبة عقد الدونية و الانتماء الساذج و التعصب الأعمى ، و انتشار الخطاب العدمي المُحْبِط المؤدي لِتَسْفيه المؤسسات الدستورية الوطنية و إفشال مبادرة الإصلاح من داخلها. حداثة بَنَّاءة تجعل الإنسان المغربي قادرا على المشاركة في زمن الثورة الصناعية الرابعة القريبة من موقع محلي فاعل معتز بخصوصية ثقافية مُنفتِحة تقوم على التلاقح الحضاري و تبادل التأثير بما يؤشر على البصمة الثقافية المغربية التي تضمن الاختيار الحُر كأساس للتغيير الإجتماعي. 1- لماذا الجواب الثقافي الجديد ؟! إن الإنطلاق من مَفْهوم الحداثة الشعبية -أو حداثة الثقافات المحلية- بما هو تعبير حُرٌّ عن تجديد مستمر لآليات التفكير داخل بنية العقل الشعبي، هو الذي يدفعنا للتنبيه إلى أن الإسقاط السياسوي غير العقلاني لصراع الأصولية الحداثوية و الأصولية الإسلاموية . هذا الإسقاط يجسد السبب الجوهري في شلل الإصلاح الثقافي الديمقراطي التنموي ، من خلال تمظهرات انتشار سلوك تبريري تواكلي غارق في التبعية و الاستيلاب ( من كلا الجانبين ) و عاجزعلى تعبيد طريق التطوير الذاتي للشخصية المغربية ، وتأهيل رأسمالها اللاَّمادي لإحتضان مشروع الصعود المنشود عبر القطع مع الربط الميكانيكي للإصلاح بمرجعية فكرية- ثقافية وحيدة محددة و منغلقة زَمَكَانِيًّا ، لأن منظومة القيم التنويرية تبقى من مَحَلِّيَتِها إلى كَوْنِيَتِهَا مرتبطة بالإنسان في شموليته و ضرورة الآخر في وجوده ، و ذلك تكريسًا لمبدأ الإختلاف القائم على الإيمان بالمغايرة و إحترام التنوع. لأجل هذا ؛ يؤسس مفهوم الحداثة الشعبية – أو حداثة الثقافات المحلية – لِورش الوثبة الثقافية الجديدة للعقل الشعبي . وثبة تنطلق من نبذ العنف و التطرف و التكفير و الإستئصال، لكي تصل إلى تحصيل المعرفة و إبداع أفكار وصيغ متطورة و أشكال تعبيرية مجدِّدَة للمشاركة الجادة في استكمال مشروع الإصلاح الديمقراطي التنموي على الصعيد المحلي ، الجهوي و الوطني. إن الجواب الثقافي المحلي يشكل المدخل السليم لإبداع النموذج التنموي الجديد الساعي بهدف إحقاق التأهيل المحلي بنفس ديمقراطي تشاركي.وهذا ما يستلزم توظيف التراكم الثقافي العقلاني المغربي بما يتماشى مع طبيعة الزمن التاريخي الراهن الذي يسائلنا عن ضرورة الحفر في أعماق تراث ” الأصالة ” و إستخراج كنوزه المعرفية العقلانية المطمرة لتحرير الحس النقدي بما يخدم خصوصية المجتمع المغربي ذي الروافد الثقافية المتعددة ( العربية ، الأمازيغية ، العبرية ، الأندلسية ، الإفريقية ، الحسانية ) و بما يؤدي إلى صيانة تنوعاتها المجالية واللغوية المحلية. و يطالبنا كذلك بضرورة التحليق العقلاني فوق سماء ” المعاصرة ” بهدف تنمية الشخصية المغربية القائمة بذاتها ، وبما يتَطلبُه النموذج التنموي المغربي الجديد من أرضيات حداثية لثقافات محلية ترفض أشكال العنف و التطرف و الإرهاب و السلبية و العظمية ، وكذلك أساليب الوصاية و الحجر المنغلق و الإستيلاب المنبهر بالآخر. و تناضل من أجل المساواة و العدالة الإنسانية باعتماد نهج العمل المحلي الجاد ذي النفس الديمقراطي التشاركي المُنْتِج و المُتلاقِح مع الآخر و مستجداته العلمية و المعرفية و التواصلية. و لعل محاولة تقديم الأجوبة حول سؤال المستقبل تنطلق من حاضر التأكيد على أن الكتلة الغالبة من الأجيال المغربية الصاعدة تعتنق مذهب «اللامبالاة السياسية» ، وتعاني من حرِّ الغياب أو التَّغْيِيب عن ذوق نماء الثقافة. إنها الكتلة الناشئة لزمن « بعد ما بعد الحداثة»؛ شباب يعاصر فوضى وفرة المعلومة وينخرط إرادياً أو لا إرادياً فيما اصطلح عليه ب “المواطن العالمي”، ولو افتراضياً من خلال شبكات التواصل الاجتماعي. هذا الشباب الذي ارتفع حجم مطالبه في ظل وضع اجتماعي واقتصادي جد قاسٍ ؛ هو شبابٌ أغلَبُهُ منفتح في السلوك والمعاملة، إنه نتاجٌ إنساني وجب أن تتطور إدراكاتُهُ الثقافية من خلال المزيد من التشبع العقلاني بقيم المعرفة و التعلم التكنولوجي ، و عقلانية الاعتدال ، و مواجهة الإقصاء والتمييز مع رفض الغلو و التكفير و الإستئصال. وكذلك عبر النضال السلمي السليم من أجل ضمان حقوق المساواة وتكافؤ الفرص والعدالة الإنسانية. وحيث أن التأويل السياسي الخرافي يقود الإنسان بشكل مباشر إلى جمود العقل؛ لأنه تأويل غير قائم على المعرفة و تشجيع التعلم ، تأويل لم يأخذ بالأسباب ولم يستجلب الإنسان بقيم المُوَاطَنَة المتوازنة. فجواب المستقبل يستدعي شحذ هِمَم الشباب المغربي قصد الانخراط الشجاع والمثمر في تغيير وضع لم يعد مقبولاً استمراره، لقد آن الأوان للنضال الذكي من أجل أن تتحول الثقافات المحلية نحو احتضان الحلول الممكنة لمواجهة تحديات و إكراهات زمن industrie4.0 و آثاره القادمة على الإقتصاد و التنمية المطلوبة ، خصوصا في ظل النقص و الخصاص الحاصل في تمكين الفئات المستضعفة من حقوقها في العلوم التكنولوجية. و لعل شذرة البدء: مفهوم الحداثة الشعبية ، الذي يؤسس لمرحلة التكيف و التأقلم مع ثورة التجميع التكنولوجي للعوالم الرقمية و البيولوجية و المادية. مفهوم ينطلق من المسألة الفلسفية والثقافية أولاً، مشروع ثقافي إصلاحي له ما يكفي من عزيمة الانتصار للمستقبل عبر تنقية الذات من خرافة العيش في ماضي الصراع الكلاسيكي المُتجاوز، والدفع بالسياق العام نحو عبق التعايش و التعاون و العمل العلمي المشترك قصد استكمال بناء تعاقد الحاضر من أجل المستقبل. 2- الحداثة الشعبية و التَّقْعيد التَّجْريدي لِلْمفْهُوم: نستفتح تقعيد المفهوم بمثال النبتة التي نريد لها إيناعاً خاصاً، وهي أيضاً تريد محيطاً خاصاً. فلا بد أن نحتفظ لها بجذورها؛ إذ أن كل استئصال لهذه الجذور يشكّل في العمق اغتيالاً للإيناع رغم التفنن في تجميل المزهرية، وكل قطع لها هو حكم على النبتة بالذبول رغم كل أشكال الاحتفال اللحظي بزينة تسرّ الناظرين فقط؛ لأن منطلق الإحساس بالسلم والسلام والتسامح والأمان والحرية والكرامة والمساواة يتجسّد في قوة التعايش بين الثقافات المحلية وعقلانية تلاقحها مع القيم الكونية النبيلة و انفتاحها على تحصيل المعرفة الرقمية اللازمة . ومنه فالإيناع «حداثة» والجذور «شعبية» وما بينهما إرادة الأنتلجنسيا المفكرة، وهي تؤطر إيقاع الإيناع من داخل المشتل لا من خارجه، تراهن على تفتّح النبتة بقدر سقيها من جذورها؛ لأن المهمة التاريخية مضاعفة: * الاعتناء بالحاضر في أفق الإيناع. * استيعاب المستقبل ضمن حركية العقل والتاريخ. لأجل ذلك يؤسس مفهوم الحداثة الشعبية لمرحلة تنقية الذات المحلية مما علق بها من ثِقَل تاريخي قصد تجاوز النزاع المفتعل الذي يروم تحريض الماضي على الحاضر أو العكس، ويفتح ورش وثبة ثقافية للشباب المغربي قصد إبداع أنماط وصيغ متطورة تضمن استكمال تلقيم مشاريع فكرية بأفق يستطيع إحقاق التأهيل المعرفي والثقافي للمنظومة المتجمدة أمام ثورة ” رقمنة الإنسانية “. فالحداثة الشعبية هي تعبير جديد عن الهوية الثقافية وفلسفة المعنى والانتماء عند الأجيال المغربية الصاعدة، منطلقها دينامية المجتمعات المترابطة والمؤسسات وتفاعل العلاقات الاجتماعية مع زمن الذكاء الاصطناعي و الثورة الصناعية الرابعة ” أنترنت الأشياء”. إنها صورة لعادات الوجدان وحركية العقل؛ حيث إنها قيم نابعة من خصوصية الثقافات المحلية المغربية التي تقودنا نحو مجتمع المنجزات وليس مجتمع المزايدات، هذه الخصوصية التي تحتضن قدرتنا على الانطلاق من جديد لرفع التحديات المستقبلية دون تخاذل أو تردد. وهي كذلك قيم كونية نشترك فيها كاختيار آخر يتطلع إلى مغرب الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية و المجالية ، مغرب الثقافات المحلية المُتلاقحة مع النبوغ الحضاري العالمي. كما أن هذا المفهوم الجديد نستطيع معه وبه معايشة زمن “العولمة 4.0” ، عبر إنجاز وثبة إبستيمولوجية خاضعة لعملية اكتشاف وبناء مستمرين من داخل وخارج المجتمعات . فهذا المشروع الثقافي الآخر – أي حداثة الثقافات المحلية – ليس بالبناء الكامل الإنجاز والمملوك لنخب بعينها، بل هي الحداثة الشعبية ذاك الوعاء المعرفي لتطابق الذات المستنيرة مع ميكانزمات رقمنة «العقل الشعبي» قصد تحرر الإرادة من معيقات التطور. إنه آلية معرفية لتمكين الأجيال المغربية الصاعدة من الغوص العميق في بحر ثقافة النانوالعالمية، فلا يمكن أن نستمر في التجديف بين أمواجها العاتية دون أن نكون أحد أجزائها المُشَكِّلَة لها والمُشَكَّلَةِ فيها. فمشروع الحداثة الشعبية يرمي تحرير للعقل الشعبي وخلخلة الجمود المعرفي الذي كرّسه البعض باسم دوغمائية المثقف أو تحت غطاء الخرافة المُؤَدْلَجَة، وجعل منها حواجز فكرية مانعة لارتقاء الوعي الجمعي للأجيال المغربية الصاعدة، من خلال رعاية الجمود المعرفي وإحباط الطاقات بالعيش في صراع الماضي أو بخطابات التضليل والعدمية التي ينبغي تجاوزها بعزيمة الواثق من ملامسة انتصار المستقبل؛ لأن الرؤية الماضوية تفضح فظاعة عجز المثقف عن مواجهة التحديات الراهنة التي تمنع الشباب المغربي من إفراز الاختيارات الجديدة و تجاوُز صدمة التحديث الرقمي ، و تحفيز بواعث الأمل في نجاح الوثبة النانو-المعرفية. وبالتالي فالحداثة الشعبية هي ممارسة جدلية الكائن الغاضب والمغضوب عليه بين موقعَيه المختلفين، وهي تستحضر قلقها الوجودي دائماً باطمئنان وبروح نقدية لبواعث هذا القلق من داخل “العقل الشعبي”. وهو ما يستوجب بماهية الغايات استثمار الغضب؛ إذ شتان ما بين المغامرة والتهور؛ لأن مفهوم الحداثة الشعبية وهو يولد من رحم الثقافات المحلية إنما يستوي عقله المعرفي بالارتكاز على مفهوم «ما بعد النقد»، وهو ما يجعل نخب الثقافة العالمة ملزمة بتحيين أدوارها ووظائفها في البحث عن نقد وتفكيك مفهوم الحداثة الشعبية قصد تطويرها، وضمان إفراز رؤيتها النقدية بعيداً عن نواقص التعالي والتسلّط والانزلاقات التحريفية التي من شأنها إعادة إنتاج نفس السلوك العقيم الفاقد للعمق الثقافي والانتماء الفلسفي الرقمي. 3- الحداثة الشعبية في زمن الذكاء الاصطناعي: إذا كان اكتسابُ نَعْتِ ” الشعبية ” لا يعني فقط ادعاء الانتماء للثقافات المحلية المغربية، بل الإنصات الدائم لمُحْتَمَلِها و احتمالاتِها، والتبئير على قوة ركائزها، وجعلها المحرك الأساسي لكل ارتقاء وصعود. فكذلك رفع لواء ” الحداثة ” لا يختزل فقط في ادعاء المسايرة والمواكبة وتقفّي آثار الشعوب المتقدمة، بل هو نقد أوليات المنعطفات التاريخية الكامنة في عمق الثقافات المحلية المغربية، ورصد نقاط ضعفها، والتركيز على مكامن قوتها بما يخلق الانسجام والتناغم داخل بنية «العقل الشعبي »، بشكل يحتفظ له بخصوصياته ويجعل منه آلية مستعدة دوماً لخوض غمار التطور قبل أن يداهِمهُ الذكاء الاصطناعي بالسؤال عن حقه الآلي في تقرير مصير الإنسانية ؟؟؟ ، وقبل أن يصدمه «اللاَّيقين» في تقديم الجواب!!!. وبالتالي لن نضمن نجاح الوثبة الثقافية المتضامنة إلاَّ ببناء استمرارية مساءلة قلقة، لا تطمئن لمنطق البديهة ولا تكتفي بحكم المسلّمات. استمرارية نقدية تُراكم الشك وتمارس وضع الأسئلة الكبرى دون الارتهان للأجوبة الصغرى ذات الأفق المحدود؛ لأن دور الأسئلة هو خلخلة بنية فكرية قائمة جامدة، والعمل الدؤوب لإعادة تشكيل صرح فكري متطور، لا يكتفي بالوصف المؤدي عادة إلى دخول سجن أحكام القيمة. بل يسعى نحو التحليل المعبر عن موطن الخلل، والتركيب المبنيّ على وقائع الطبيعة و الطفرة الرقمية وانتظارات الإنسان. وهو نفس الدور الذي ينبغي أن تَعِيه نخب الثقافة العالمة بين ممارساتها وإكراهات المحيط العام الذي هي جزء منه بحكم غاياتها التي تريد أن تحققها داخله وليس خارجه. إنها المحايثة التي تُجَنِّبنا الوقوع في طوباوية حالمة وتقينا شر «خلق العوالم» دون القدرة على تصريفها. فاستراتيجية تَلْقيم الثقافات المحلية هي استمرارية نقدية مسائِلة للأرض الحاملة للخطى والنور البعيد الذي نرنو إليه دون الإصابة برهاب الظلام. فكما الليل الدامس بظلاميته المثقلة للخطى، والباعثة على اليأس والقنوط والملل، كذلك تبعث الأضواء البراقة الكامنة في الأجوبة الصغرى على الزهو الفارغ والنرجسية القاتلة التي تعيش هالتها نخب الثقافة العالمة وتبني عليها مظلوميتها، بل تسميها اغترابها بتلذذ مفرط داخل الشرنقة الخلابة، وبين ثنايا ثقافتها العالمة تخفي عجزها واتِّكالَها عن مواجهة متطلبات الحاضر والمستقبل. تماماً .. مثلما يتلذذ تَدَيُّن الداعية ، الشيخ الفقيه والمفتي، بنصوص العتاقة وفصاحتها لِيُخفي عجزه وخوفه من فتح باب الاجتهاد . ثم يَنْضَمُّ المثقف والداعية معاً إلى خانة «العقل المستقيل» ويفتحان المحيط العام على المجهول السياسي في مسرحية ماضوية التنابز بالألقاب. إن الاستمرارية النقدية هي عصب الحداثة الشعبية، بين ما ترسب في قعر الثقافات المحلية المغربية وما يستدعيه المحيط العام من ملائمة الذات أولاً. فهل نمتلك المناعة الكافية لِنَقد التفاصيل قبل أن نطالب المحيط بالحصانة؟ وهل نتوفر على ثقافة «المَنْجَمِي» قبل أن نتقلد منصب «المُنَجِّم»؟ . لذا ؛ فالاستراتيجية في عمقها الثقافي المتنور هي هذا التسلح الدائم والواثق بقابلية التكيف مع المستجد الرقمي دون الانشداد إلى دوغمائية المثقف، التي لم تسفر إلا على تقوقع يكتفي باستحلاء لحظة الدهشة حين تتوالى صدمات الحداثة و ما بعدها، و ما بعدَ بَعْدِها. ولا يعني النقد المستمر جَلْد الذات بل تطويعها بما يخدم قابليتها للتطور؛ إذ أن بناء وهمِ الحقيقة المطلقة في تصديق مجريات الأمس أو الثقة الساذجة في المستقبل لن يحشر الذات إلا في وهم طلاء «الغرفة المظلمة» كل يوم بلون مزاجي. وقد تتعدد الألوان البراقة غير أن «الغرفة» تأبى إلَّا أن تظل «مُظلِمة» تحجب جدرانها القزحية الأفق البعيد، وتصيب العقلَ بِعَمَاه الثقافة الجامدة. إن الانشطار الذي تعرفه ميكانيزمات العقل الشعبي ، وجب أن تنتفي مبررات استمراره تبعاً لمحاور التجميع المتوفرة في المنطلقات والكثير من الأهداف. وكذلك لأن المستفيد من هذا الانقسام هم سدنة الخرافة المؤدلجَة، وهو ما يشكل تهديداً خطيراً لِمستقبل التجربة الديمقراطية المغربية. لذا تؤسس الحداثة الشعبية لاستراتيجية تلقيم الثقافات المحلية عبر التأمل العميق في «فوضى» الحركة الدولية للتغيير الذي يفضي بنا نحو التأكيد على أن الحرية والكرامة والعدالة الإنسانية و المساواة ، هي مطالب مفتوحة للأجيال المغربية الصاعدة التي من اللازم أن تتسلح بما يكفي من المناعة المعرفية والثقافية و المواكبة الرقمية ؛ لكي لا تصادر حيل الخرافة والانغلاق و الجمود المعرفي حق هذه الأجيال في حرية الاختيار و حق الإبداع، ولكي لا يصبح مصيرها المستقبلي مقيَّدا وخاضعا لأحادية تطبيقات أنترنيت الأشياء و برمجة الذكاء الاصطناعي في عصر البيانات الضخمة Big Data.