لافتة طريفة رفعها أفلاطون على باب منزله، كما ذكر ابن خلدون في مقدمته، تقول: “من لم يكن مهندساً فلا يدخل منزلنا”. عند الرجوع إلى كلمة هندسة باللغة العربية، نجد أنها تحمل عدة معاني، وإن كان أصلها فارسي “الأندازة” يعني المقادير المطلقة، فهي تشمل عموماً مجال الهندسة الرياضية (Geometry) التي تبحث في الخطوط والأبعاد والسطوح والزوايا والكِمِّيات والمقادير المادية من حيث خواصها وقياسها أو تقويمها وعلاقة بعضها ببعض؛ ثم مجال الهندسة النظرية وهي المبادئ والأصول العلمية المتعلقة بخواص المادة ومصادر القوى الطبيعية وطرق استخدامها لتحقيق أغراض مادية؛ بالإضافة إلى مجال الهندسة التطبيقية أو العملية (Engineering)، وهي تطبيق العلم (الفيزياء، الكيمياء، الرياضيات، والأحياء) لتوفير الحاجات الإنسانية، وذلك من خلال الدراسة والتصميم. وقد أوضح ابن خلدون، في مقدمته، فضل الهندسة قائلاً: “واعْلَمْ أن الهندسة تفيد صاحبها إضاءة في عقله، واستقامة في فكره؛ لأن براهينها كلها بَيِّنَة الانتظام، جليّة الترتيب، لا يكاد الغلط يدخل أقيستها؛ لترتيبها وانتظامها؛ فيبعد الفكر بممارستها على الخطأ، وينشأ لصاحبها عقل على ذلك المهْيَع (أي: الطريق أو النسق)”. وإن كانت إسهامات الحضارات القديمة كالمصرية والبابلية أو الإغريقية في الهندسة لا تتعدَّى عملية البناء، كإقامة الأهرامات والجسور وتشييد السدود ومد قنوات الري، فقد تبَلوَر هذا العلم على أيدي العلماء المسلمين الذين طوَّروا تقنيات الهندسة الميكانيكية منذ القرن التاسع الميلادي حتى القرن السادس عشر الميلادي، وكانت هذه التقنيات تعرف باسم “الحيل النافعة”، وهي آلات وتجهيزات يعتمد البحث فيها على حركة الهواء (الإيروديناميكا)، أو حركة السوائل واتِّزانِها (الهيدروديناميكا و(الهيدروستاتيكا). ثم بعد ذلك، ما آلت إليه علوم الهندسة عند انتقالها إلى الغرب، وما وصلت إليه في عصرنا من تطور غير مسبوق. وتبقى مهمة المهندس الحيوية هي إيجاد الحلول الناجعة لمشكل أو مسألة ما بأقل تكلفة وفي وقت وجيز، زيادة على دوره في تيسير وإتاحة الاستخدامات العملية للاكتشافات والابتكارات العلمية. تُراكِمُ فئة المهندسين رصيداً معرفياً هائلاً بفعل تكوينها مُتنوِّعِ الاختصاصات والذي يتطلب عدة مقدرات ومهارات إضافة إلى خصال الصبر والجَلَد مع المثابرة، ثم التجربة الميدانية والاحتكاك الدءوب بكل ما يرتبط بالمجال الإنتاجي والاقتصادي، إضافة إلى الإداري والتسييري، مما يُكسِبها خبرة تقنية ومالية وقانونية في تسيير المشاريع. ويختار البعض، بعد مشوار طويل، العمل في الخبرة القانونية لدى المحاكم، قصد تنوير القضاء للفصل في النزاعات ذات صبغة تقنية وتحديد المسؤوليات في الحوادث الخاصة بالبنايات والمنشآت الهندسية. الغريب في الأمر أنه لحد الآن لم يتم إدراج صنف “خبير” ضمن أسلاك الوظيفة العمومية بالمغرب، مِمَّا يُضيِّعُ فرصة الاستفادة من العديد من الطاقات والخبرات التي حصدت تجربة كبيرة عبر العمل في القطاع العمومي أو الخاص، في حين يمكن الاستعانة بها في مختلف القطاعات الحكومية، بدل اللجوء إلى كفاءات أجنبية قد لا تكون في المستوى المطلوب، وتستنزف أموالاً طائلة من ميزانية الدولة دون جدوى. من جهة أخرى، يشغَل المهندسون مناصب مهمة في المجال التقني أو التسييري، لكن قيود المُشَغِّل، سواء في القطاع العام الذي تحكمه التوجُّهات السياسية، أو الخاص المهووس بالربح المادي، تحدُّ من قوتهم الاقتراحية، وكثيراً ما يكتفون بتنفيذ التعليمات التي تُملَى عليهم. وتجدر الإشارة أنه منذ “الاستقلال”، جُلُّ مناصب القرار في القطاعات العمومية وشبه العمومية يسيطر عليها خِريجو مدارس ومعاهد فرنسا التي يتحدثون لغتها ويستهلكون منتجاتها ويخدمون مصالحها، بعدما قامت بتجنيسهم وتدجينهم واستلاب هويتهم وثقافتهم المغربية وتبديل غيرتهم الوطنية بالغيرة والدود الشرس عن مصالحها. وإنه لَمِنَ المؤسف أن تكون النخبة المُعوَّل عليها للنهوض بالبلاد وتحقيق التنمية المنشودة، أداة في يد المستعمر لتنفيذ مساعيه الإمبريالية وتكريس التبعية الفكرية والاقتصادية والسياسية له. وحتى خِريجو المدارس الوطنية لم يسلموا، إلا من رحم ربي، من الاستلاب الثقافي وطمس الهوية، بفعل التكوين المفرنس بالمدارس المغربية العليا للمهندسين وكذا جراء فرنسة سوق الشغل. وقد كان موقفاً طريفاً ومؤلماً في نفس الوقت حين فاجَئَني زميل في مجموعة تواصل، عندما سألت عن سبب استعمالهم الفرنسية في الحديث، فأجابني أنها هي أيضاً لغتنا الوطنية وعلينا استخدامها ! يعيش المهندسون المغاربة كثيراً من التشرذم، وإن وجدنا لهم بعض التكتلات، فتكون عبارة عن جمعيات خِريجي نفس المدرسة حيث نشهد “عداوة” طريفة بين مختلف المدارس، أو نقابات حزبية غالباً ما تتم إذابتهم وإلجامهم داخلها. فهل انخراطهم في الحياة الجمعوية أو الحزبية يغلب على دورهم العضوي كتِقنوقراط أصحاب منهجية عقلانية وفكر فذ وحر؟ كل هذا التشَتُّت وعدم توفر هيئة مستقلة تمثِّلُهم مع تنوع الاختصاصات الهندسية الحالية واتساع مجالاتها، يحول دون قيامهم بالدور الطلائعي والفعلي كقوة اقتراحية خبيرة ومؤهلة، تؤثر في التوجهات العامة للبلاد، وتطرح الحلول والبدائل بخصوص مختلف القضايا الوطنية التي تمُتُّ بصلة مباشرة بمجال تطوير التكنولوجيا والاختيارات التعليمية والاقتصادية التي تهم تقدم البلاد، بعيداً عن الحسابات السياسية الضيقة، والتي قلَّما تنبني على دراسة علمية أو تحمل رؤية استراتيجية لمستقبل البلاد ومصلحة المواطنين… لا ننسى الدور السياسي والتأطيري الذي اضطلع به المهندسون، طلبةً وأطراً، إبَّان سنوات الرصاص في السبعينيات وأوائل الثمانينيات من القرن الماضي… جانب آخر مثير للتساؤل، هو الغياب الحالي للمهندسين عن المنابر الإعلامية، سواء المكتوبة أو المسموعة أو المرئية… نادراً ما تتِمُّ استضافتهم في برامج حوارية أو توعوِية، وقليلة هي إصداراتهم المكتوبة، اللهم بعض المساهمات العلمية والتقنية التي تنشر في مجلات مختصة محدودة الانتشار، وغالبا ما تكون باللغة الفرنسية. ما عدا ذلك، لا نراهم على الصحف والمجلات الورقية أو الإلكترونية، يُعبِّرون عن آرائهم ومواقفهم حول القضايا المجتمعية، كما يفعل زملاؤهم من المهن الأخرى وخاصة العاملين بمجال التدريس أو المحاماة أو الطب… فهل يخرج المهندس من قوقعته، يُسمِعنا صوتَه ويستعيد دوره الريادي في المجتمع؟ ومتى يجمع شتاته ويعي حجم المسؤولية المنوطة به، فينزع جلباب التبعية ويعود لاستكمال معركة التحرر والتحرير؟ * مهندسة وكاتبة