بارانويا السياسة تنظر الأديان للسحر باعتباره تطاولا على الله وتحدياً لمقدرته، لأنه يدفع باختراق النظام الكوني الذي خلقه الله، ويستعين بالشيطان وبالجن الأشرار المتمردين على الله. فاليهود يعتبرون الجن هم ظلال وأشباح للأجسام البشرية، فيما اللاهوت المسيحي يؤمن أن لا وجود فعلي للجن إلا في الجنون، فقد ظهر فقط في رؤيا يوحنا. أما في الفكر الإسلامي فللجن حضور واضح في القرآن الكريم والكتب الإسلامية. والجن موجود لدى جميع الديانات والمعتقدات، مثل الهندوسية والمندائية. والاعتقاد بالسحر راسخ في القدم، حيث طالما اعتبرت الكثير من الحضارات مثل الحضارة اليونانية والمصرية والصينية، أن الأمراض التي تصيب الإنسان أو الجنون أو الكوارث الطبيعية هي من فعل الجن. انتشر السحر في كل مكان من بقاع الأرض. بقارة آسيا في إيران والهند والصين وكوريا. وفي أفريقيا انتشر بمعظم الدول تقريباً. الولاياتالمتحدة وأوروبا ليسوا استثناءًا، ففيهما انتشر كثير من السحر في أمريكا وبريطانيا والدانمرك وروسيا وألمانيا وغيرها من الدول. في مصر بالعصر الفاطمي انتشرت الشعوذة كثيراً، وظهرت شريحة من السحرة والدراويش. في نيجيريا يتفشى اعتقاد لدى العامة أن السحرة بإمكانهم التأثير على كل شيء. في المغرب ترسخت ثقافة السحر عبر قرون، وتعود هذه الثقافة إلى فترة ما قبل الإسلام، حتى أصبح الناس يظنون أن السحرة في المغرب هم الأقدر. في شبه الجزيرة العربية شاع السحر قبل الإسلام، وكان الناس يظنون أن الأنبياء ما هم سوى سحرة. في السودان ذاكرة مشبعة بثقافة السحر الذي امتد إلى كافة مناحي الحياة. في سبيل تحقيق أهدافه سلك الإنسان دروب المستحيل، مستعيناً بما هو غير مألوف لأن الغاية هي بلوغ الأهداف، فلجأ إلى السحر. فقد كان المستقبل مجهولاً بالنسبة له، والقوة التي تمتلكها الطبيعة عاجزة عن تحقيق ما يتطلع له. كان يريد تبديد العوائق التي تعترض سبيل أغراضه، وكانت تلك مهمة السحر. عقيدة السحر لجأ الإنسان قديماُ إلى السحر مراراً وتكراراً، خشية من الغيبيات ولعجزه عن فهم الظواهر الطبيعية. واستعمل السحر لحماية ذاته وعائلته من الأمراض، وكذلك لدرء الكوارث وجلب الحظ. كان للسحرة مكانة اجتماعية هامة جداً، خاصة البارعون منهم. وكانوا بمثابة قوة خفية تساعد الناس على تفسير الغيب غير المفهوم، وكذلك رؤية المستقبل البعيد. وفي مراحل تاريخية ما قبل الميلاد أصبح السحرة كهنة، وصار لديهم عقيدة وتحول السحر إلى علم يمارس يومياً. تعززت مكانة الساحر/الكاهن وأصبح يتخذ قرارات مصيرية لجماعته متعلقة بالحرب والسلم، الانتصار أو الهزيمة، السعادة أو البؤس، المرض أو الصحة، الولادة أو الموت، الولاء أو الخيانة، وسواها من أمور الحياة. ثم تحول الكهنة إلى ما يشبه الدعاة إلى اعتناق فكر أو دين أو مذهب محدد، وبالتالي اكتملت الصورة الكاريزمية للكهنة الذين خلطوا السحر بالكهنوت بالفكر. في العصور الحديثة تحول عدد كبير من السياسيين إلى سحرة وكهنوتيين، يخاتلون ويخدعون الناس ويدغدغون مشاعرهم عبر خطابات تحمل أبعاداً أيديولوجية دينية أو فكرية بهدف تحقيق المصالح السياسية. لقد اختبرت البشرية الكثير من السحرة السياسيين مثل “أدولف هتلر” و”بينيتو موسوليني” اللذان تمكنا عبر الشعوذة السياسية التأثير العقائدي على شعوبهم، ومن ثم جرهم وجر بعض شعوب العالم نحو الكوارث التي كبدتهم خسائر مادية وبشرية هائلة. تكرر المشهد في عدد من الديكتاتوريات العربية وفي أمريكا اللاتينية. فكيف تنجر الجماهير مثل القطيع خلف أشخاص يمتلكون هذا النوع من الكهنوت السياسي، ولماذا تصاب بصيرة الناس بالعماء الذي يحول دونهم والحقيقة. ما يحصل اليوم في كثير من الأماكن، خاصة في العالم العربي وشرق الأوسط، ما هو إلا نوع من أنواع الكهنوت السياسي والشعوذة الفكرية، جعلت معظم الشعوب العربية تنقاد صاغرة إلى مصير مجهول، تحدد معالمه أطماع السحرة السياسيين. الكهنوت الغربي كثيرون من قادة الدول والأحزاب والمنظمات استعانوا بالسحرة والمنجمين لمعرفة صحة خطواتهم ومواقفهم، ومحاربة المتربصين بهم. من أبرز هذه الأسماء في الغرب الرئيس الفرنسي السابق “فرانسوا ميتران” الذي كان يأخذ بنصائح أشهر منجمات فرنسا “إليزابيث تيسييه”، وكان يستشيرها في اجتماعه الأسبوعي معها، في كافة أمور الحكم ومنها تعيين رئيس الوزراء. حتى أن ميتران سأل عشرة منجمين عن شخصية الرئيس العراقي السابق “صدام حسين” بعد احتلاله للكويت. الرئيس الأمريكي السابق “جورج بوش” الأب استشار العرافة “كريستين داغوي” في تحديد موعد بدء عملية “عاصفة الصحراء” لتحرير الكويت. أيضاً الرئيس الأمريكي السابق “رونالد ريغان” ربطته علاقات قوية بالكثير من السحرة والمنجمين، وعين ثلاثة منهم مستشارين له في البيت الأبيض. الرئيس الأمريكي السابق “جيمي كارتر” اعترف أن عرافة مصرية تنبأت له بالرئاسة من ستينيات القرن العشرين. الرئيس السريلانكي السابق “ماهيندا راجاباكسا” دعا إلى انتخابات مبكرة في العام 2015 بناء على نصيحة من عرّافه الخاص، لكنه خسر في الانتخابات، مما دفع بالعراف المشعوذ للهرب. الرئيس البورمي السابق “تان شوى” كان مصاباً بهوس السحر وأعمال الشعوذة، فقام بنقل العاصمة من مدينة “يانجون” إلى قرية “نيبيدوا” التي لا تتوفر على المياه والكهرباء، فقط لأن المنجمين أخبروه أن حكومته سوف تسقط إلى لم يقم بنقل العاصمة. كما أن الرئيس الفرنسي السابق “نيكولا ساركوزي” وزوجته عارضة الأزياء الشهيرة “كارلا بروني” كانا يتعاملان مع العرافات والمنجمين، وكان ساركوزي يستشير المشعوذين حول علاقاته مع بعض النساء. حتى الرئيس الروسي “فلاديمير بوتين” يستعين بالسحرة لإدارة دفة الحكم، فقد ذكرت صحيفة “ذا صن” البريطانية أن مجموعة كبيرة من الساحرات الروسيات اجتمعن في موسكو بناء على طلب من الرئيس، من أجل مساعدته على هزيمة أعدائه والذين يكرهون روسيا. أما في كوريا، بعد التحسن النسبي في العلاقات بين الكوريتين، قامت كوريا الجنوبية بدعوة عدد من سحرة كوريا الشمالية، للمشاركة في مسابقة دولية استضافتها مدينة “بوسان”. رئيس “هايتي” السابق الديكتاتور المخلوع “جان كلود” الذي توفي عام 20014 في منفاه، بنى مملكة سيئة السمعة اشتهرت بالفساد وانتهاك حقوق الإنسان، في أفقر بلد بنصف الكرة الغربي. هذا الرجل الذي ورث الحم عن أبيه وكان عمره 19 عاماً، كان يعاني من الهوس بالسحر والشعوذة. امتلك مجموعة من كبار السحرة الذين يحضّرون ما يسمى السحر الأسود، للسيطرة على الرعية والأتباع، وكان يطلق على رجال أجهزته الأمنية السحرة المتنقلون. حتى أن السحر دخل ميدان الاحتجاجات السياسية. تم استخدام السحر وسيلة لاستهداف قادة سياسيين للاحتجاج على مواقفهم. في العام المنصرم قامت مجموعة من ساحرات نيويورك بتشكيل حلقة طقوس كان الهدف منها الانتقام من “بريت كافانو” الذي عينه الكونغرس الأمريكي رئيساً للمحكمة العليا، بالرغم من اللغط الذي أثير حول تورطه بقضايا تحرش جنسي ضد النساء. وصنعت الساحرات تعويذة كي يفشل القاضي بمهامه. نفس النساء استهدفن الرئيس الأمريكي “دونالد ترامب” بتعويذة لرفض سياساته. في بداية أربعينيات القرن العشرين، تجمع عدد من الساحرات البريطانيات لصنع تعويذة لعنة تستهدف أدولف هتلر”. وفي أواسط الستينيات خلال الحرب الأمريكية على فيتنام، حاول عدد من المتظاهرين الأمريكان محاصرة مبنى وزارة الدفاع الأمريكية لإقامة طقس سحري، كانت غايته أن يقتلع المبنى ويدفعه نحو السماء. رئيس جنوب أفريقيا السابق “جاموب زوما” اعترف بمذكراته أنه كان يمارس السحر ضد السكان البيض خلال فترة حكم الفصل العنصري. الشعوذة العربية في المشهد العربي الصورة كارثية. بعصر الثورة المعلوماتية تنتشر بمعظم الدول العربية ثقافة السحر والشعوذة، وتجد شرائح اجتماعية واسعة لديها إيمان مطلق بالغيبيات، حيث يسود هذا الاعتقاد ليس فقط بين أوساط الفئات الفقيرة الأقل وعياً وتعليماً، إنما دخل السحر إلى القصور الرئاسية في بعض الدول العربية، وإلى مكاتب الوزراء والمدراء العامين، الذين يصدقون أن للسحرة والمشعوذين قوة خفية عظيمة تمكنهم من الحفاظ على مواقعهم، وتدحر أعمال الخصوم. من أجل هذا تزدهر أسواق السحر والسحرة والدجل والشعوذة في العديد من الدول العربية والأفريقية. معظم رجال نظام الرئيس المصري الراحل “جمال عبد الناصر” كانوا مفتونين بالسحر والجن، وهو ما دفع عبد الناصر نفسه كي يشير إلى صحافة الغيبيات، في الخطاب الذي ألقاه بمناسبة تأميم الصحافة، وكان يقصد بذلك المقالات التي كان يكتبها عدد من كبار الصحفيين والكتّاب عن جلسات تحضير الأرواح. يذكر “رياض المالكي” وزير الثقافة والإرشاء القومي للإقليم الشمالي “سوريا” في حكومة الجمهورية العربية المتحدة 1958 “حكومة الوحدة” بين مصر وسوريا، في ذكرياته، أن بعض الوزراء المصريين في دولة الوحدة كانوا يقيمون جلسات تحضير الأرواح في القاهرة، مع عدد من الوزراء السوريين. وأضاف أن الجميع كان مؤمناً أن هذه قضية “علمية” لا شك في جديتها تسهم في إيجاد حلول لكثير من العقد المستعصية في شؤون الحكم. في العام 1971 على أثر قيام الرئيس المصري الراحل “أنور السادات” بما سمي انقلاب القصر ضد رجال عبد الناصر، نشرت الصحف المصرية مقالاً صادماً كتبه “محمد حسنين هيكل” تناول انشغال كبار معاوني عبد الناصر بقضايا الشعوذة والسحر لاكتشاف مستقبلهم السياسي، وعن كيفية التصرف مع السادات. ليس هذا فقط. الكارثة أن رجال عبد الناصر كانوا يعقدون جلسات سحر وتحضير أرواح بهدف تحرير سيناء من الاحتلال الإسرائيلي. الرئيس السادات حصل على أشرطة لهذه الجلسات قامت بتسجيلها الأجهزة الأمنية المصرية، ثم أرسلها لهيكل الذي نصحه الأديب “توفيق الحكيم، بعدم نشرها، لأنه لو فعل لاتهم بالجنون. الرئيس عبد الناصر ذاته كان مهتماً بالدجل والسحر كما ذكر الصحفي المصري “حلمي سلام”. والسادات كان يستخدم الشعوذة كي يتقرب من عبد الناصر. وأشار حلمي أن الجلسات كانت تعقد في منزل المشير ” عبد الحكيم عامر”. أحد الضباط الأحرار، والمستشار السياسي لعبد الناصر، ونائب رئيس وزراء بعهد السادات، اسمه “حسن التهامي” كان إنساناً متديناَ ومستقيماَ، انقلب لاحقاً وتحول إلى مشعوذ، وأخبر الجميع أن الحجاب كشف عنه. سافر هذا الرجل مع السادات للتوقيع على اتفاقية كامب ديفيد. قيل إنه أمضى ليلة كاملة وهو يتصل بالسماء، وتلقى رسالة سماوية أبلغته أن السادات على الطريق الصحيح يسير. الرئيس السوداني السابق “جعفر النميري” الذي قام بإعدام قيادة الحزب الشيوعي السوداني، واغتال زعيم الحزب الجمهوري، وقصف بالطائرات الحربية أنصار الإمام المهدي واعتقل كافة رموز الحراك السياسي، كان مفتوناً بالسحر والتنجيم وقراء الطالع. وكلما سمع باسم ساحر أو ساحرة أحضروها إلى القصر الرئاسي لقراءة طالعه، ولمعرفة مصيره في الحكم. هذه الهواجس التي تلبست النميري كانت نتيجة بطشه واستبداده وكثرة خصومه. حتى بعد الانتفاضة التي أطاحت بحكمه العام 1985 لجأ إلى القاهرة، دفع ملايين الدولارات للسحرة كي يعود إلى السلطة، لكنه لم يعود. أحد المشعوذين السودانيين تنبأ للرئيس السوداني الحالي عمر البشير، الذي وصل إلى الحكم العام 1989، أنه سيحكم السودان 31 عاماً و25 يوماً. الرئيس المصري السابق “حسني مبارك” كان لديه عرّافة رئاسية، كثيراً ما يستمع إلى ما تقوله، حيث كانت قد أخبرته بحضور “سوزان مبارك” أنه عائلته سوف تحكم مصر، ونصحته بتوريث الحكم للابن. علاقة مبارك مع السحر والشعوذة قديمة بدأت منذ كان ضابطاً في السودان بنهاية الخمسينيات من القرن العشرين. هناك التقى مبارك بساحر سوداني أخره أنه سيصبح رئيساً. بعد تعيينه نائباً للرئيس السادات، رصدت الأجهزة الأمنية المصرية تردد حسني مبارك كثيراً على إحدى الشقق في مصر الجديدة، ليتضح بعدها أنه كان يزور إحدى العرافات المصريات الشهيرات، وتبين لأجهزة الأمن أن هذه السيدة تسافر بطائرات خاصة يرسلها أمراء وأثرياء عرب كي تقوم بقراءة الطالع لهم. الدجل السياسي الأمة العربية ابتليت بأحزاب قومية عوراء، ويسارية حولاء، وقوى مذهبية وطائفية تعاني ارتجاجاً دماغياً، كافة هذه الأطر والجماعات تعاني من جمود عقائدي وفكري وفلسفي، في عالم غير ثابت ويشهد تحولات ومتغيرات متتالية. هذا التمترس الفكري خلف نظريات ورؤى لم يعد لها وجود إلا في خطابات تلك القوى التي تسببت في شقاء الشعوب العربية. ومن أكثر المواقف التي تثير جدلاً لدى هؤلاء، أن كل دولة أو حزباً أو هيئة أو جماعة أو فرداً يقترب من السياسة الغربية في أي شأن كان فهو عميل وخائن وذيل للإمبريالية. وكل طرف يتساوق مع السياسة الروسية ويشد الرحال إلى موسكو هو وطني وتقدمي. هنا لا تستطيع القوى القومية واليسارية العربية أن تدرك أن من يصنع السياسة الروسية هم المافيات الاقتصادية والرأسمال المالي، ولا يصنعها “تشي جيفارا” شأنها في ذلك شأن صناع السياسة الغربية، ولا تختلف عنهم في شيء. إن هدف السياسة الروسية توسيع مناطق نفوذها لبسط السيطرة السياسية لتحقيق الغايات الاقتصادية، وهي تقوم بالتنسيق مع الغرب ومع الولاياتالمتحدة، ومع إسرائيل أيضاً في الكثير من المواقف والقضايا التي تهم منطقة الشرق الأوسط، والتي تمس المصالح والأمن القومي العربي بشكل مباشر. الفاجعة هو أن الأنظمة العربية التي تتدعي العداء للإمبريالية تسعى نحو التقرب من الولاياتالمتحدة، وحين ترفض الأخيرة، تقوم الدول القومية العربية بطلب التوسط لدى الإدارة الأمريكية، من دولة عربية أخرى تكون عادة متهمة بأنها دولة رجعية امبريالية. هذا يظهر عمق الأزمة والعهر السياسي لتلك الدول والأحزاب القومية واليسارية، التي لديها مقياس مراوغ للوطنية والعمالة، وهي أول من يخترقه. إن الشعوب العربية قد أصيبت بالتخمة من الخطابات الثورية والمواقف الانفعالية والشعارات الرنانة لمعظم الأنظمة العربية وقادتها، وغالبية الأحزاب اليسارية والقومية، ولم تعد الكاريزما السياسية لأي زعيم عربي قادرة على التأثير في قناعات الناس، رغم أن الأنظمة العربية لا تكل ولا تمل من ممارسة أنواع ومستويات متعددة من السحر السياسي الموجه للجماهير الشعبية، بهدف التنفيس عن الاحتقان المزمن الذي أصاب غالبية الشعوب العربية. ما يؤلم حقاً أن هذه الأنظمة العربية تزاود بمواقفها على حساب قضايا الأمة الهامة ومستقبلها، وخاصة قضية الشعب الفلسطيني وتقوم بالمتاجرة بعذاباته، دون حتى أن تكلف نفسها مشقة سؤال الفلسطينيين إن كانوا يريدون الحياة أم الاستشهاد، وينسون أن الشعب الفلسطيني صاحب أعدل وأقدس قضية عرفتها البشرية، قد أدرك الدرس جيداً بشكل مبكر، وخرج من معابد هؤلاء الكهنة السياسيين، وأن نضالاته وتضحياته لا يمكن أن يشطبها خطاب ناري من زعيم عربي، ولا أن يزيدها فخراً السحر السياسي تنتعش أسواق الدجل في بعض المجتمعات الأفريقية والعربية وسواها، ويصبح كثير من المسؤولين الحكوميين مصابين بهوس السحر والدجل. ويزداد الطلب على الشعوذة خلال الأزمات السياسية والاجتماعية والكوارث الطبيعية. فتلجأ كثير من الشخصيات النافذة في هذه الدول من وزراء ومدراء بنوك وشركات ورجال أعمال وفنانين وشخصيات عامة إلى شيوخ السحر. غاية هؤلاء إما طلب العون لكف يد السلطات التي تلاحقهم عادة بتهم الفساد المالي والإداري والرشاوي والاختلاس، وإما رد كيد المتربصين لهم من حسّاد وأعداء. ويتوافد السياسيين في هذه الدول على معابد السحرة والدجالين دورياً، ويستعينون بخدماتهم خاصة في فترة الاضطرابات السياسية والاجتماعية والأمنية والانقلابات العسكرية. التكوين العلمي والمعرفي الضحل، والبنية النفسية الضعيفة، نقص الثقة بالنفس، وغياب مهارات التواصل، عدم وجود ميزة الحضور والشخصية الكاريزمية لمعظم قادة العالمين العربي والأفريقي، إضافة إلى إدمانهم ممارسة السلطة، والتمسك المرضي بكرسي الحكم، يجعلهم يهرعون للسحرة والدجالين خوفاً من فقدان المنصب وضياع الامتيازات التي يوفرها. ينسى معظم الزعماء والقادة العرب وسواهم المصابون بجنون العظمة، العدو الحقيقي ويتوهمون أعداءًا بسبب الذهان السياسي، ويصرفون على البارانويا السياسية أموالاً طائلة. لا تستغربون الاستقالات أو الإقالات المفاجئة التي تحصل في الدوائر العليا في بلد ما، فقد يكون خلفها سحرة ومشعوذين، بات حضورهم في دوائر القرار يتسع، بل أصبحوا هم الحكام الفعليين. من مشرقه لمغربه إن الخرافات والأساطير تجد صدىً عند العقل العربي، ولا أكون مبالغاً لو ذكرت أن معظم الشعوب العربية بكافة شرائحها الاجتماعية وتنوعها الاقتصادي والتعليمي، إلا وتجد في وعيهم شيء من الخزعبلات تختزنها الذاكرة الموروثة. في الواقع إن لكل أيديولوجية أدوات خرافية توظفها الأنظمة والحكام للحفاظ على طاعة الرعية، وعدم انفلاتهم من السلطة المركزية. فنجد لكل قطيع راع يسعى لتآلفه الداخلي. يعود افتنان الناس بالسحر والأسرار لرغبتهم الدفينة في معرفة القدر والمستقبل. فيحصلون على هذه المعلومات من السحرة والمشعوذين لقاء أموال طائلة. حيث جاء في تقرير نشرته صحيفة المدينة السعودية في العام 2014 أن العرب ينفقون ما قيمته 7,5 مليار دولار سنوياً لقضايا ترتبط بالسحر والتنجيم وقراء الطالع، وفك السحر الأسود، وجلب المصلحة، وإحداث ضرر بالآخرين. حين تعصف بالناس المصائب ويمرون بظروف كارثية كما يحصل في البلاد العربية، يلجأ البشر حينها إلى كل ما هو روحاني وغيبي، لذلك تماماً تتسع في بلادنا أكثر من سواها، ظواهر السحر والدجل والشعوذة قراءة الطالع والفنجان والكف وورق اللعب وغيرها. وترى السحرة والمنجمين ينتشرون للاحتيال على الناس البسطاء الذين ينتظرون أي بارقة من الأمل يتمسكون بها، حتى لو كانت كذباً وخداعاً، علها تزيل كربهم وتداوي الضنك. إن الغالبية العظمى من معتقدي السحر هم من الناس الذين يعجزون عن إيجاد تفسير علمي لبعض الحالات التي لا يتمكن العلم والطب من فهمها وعلاجها، فيلجؤون إلى الشعوذة والدجل. لا تتوفر بيانات ولا أرقام بحثية حول انتشار السحر عربياً، لكن في البحث وجدت دراسة يتيمة أصدرها المركز القومي للبحوث والدراسات الجنائية المصري، تفيد أن في مصر يوجد حوالي 300 ألف ساحر يقومون بتحضير الأرواح، و300 ألف مشعوذ يدعون أنهم قادرين على علاج المرضى والممسوسين بالجان، عن طريق القرآن والإنجيل. وأن هناك دجالاً واحداً لكل 120 مواطناً مصرياً. وما يزيد عن 50 بالمائة من النساء المصريات يؤمن بالسحر والشعوذة، وهن دائمات التردد على الدجالين. وحوالي 40 بالمائة من المثقفين من الجنسين لهم علاقة بأعمال السحر والتنجيم والشعوذة. في المغرب تنتشر “الشوافات” و”الفقهاء” في كافة الأحياء والمدن. وهناك يمارس ما يمكن أن نسميهم أباطرة السحر الأسود أفعال الشعوذة وترويض الجن بشكل احترافي، بعضهم يفضل العيش في قرة صغيرة بعيداً عن أعين الأجهزة الأمنية، ويمتهنون الإمامة، ومنهم من يعيش في المدن الكبيرة بأرقى الأحياء. سحرة مغاربة وأفارقة يتحكمون بالعوالم السفلية في مدن كثيرة أهمها، الدار البيضاء، الرباط، مراكش، ومدينة الصويرة التي يعيش فيها أشهر ساحر يهودي في العالم، هو الحاخام “حاييم أزلغوط” للسحر في المغرب خارطة تحدد أنواعه وشيوخه. فمن سحر “الخدمة، التهييج، التقاف، التراجيم، طي الأرض، الإخفاء” الذي يقوم به الفقهاء المغاربة، إلى سحر “الكبالا” ويمارسه الحاخامات اليهود المغاربة، وسحر “الفودو” الأفريقي وهو الأخطر، الذي يشتغل به بعض الأفارقة المقيمين في المغرب، حتى لسحرة الخليج وخاصة العمانيون مكاناُ هناك. دساتير الجان في العالم العربي الشقي لا شيء يبدو منطقياً، حتى السياسة تظهر كأنها نوع من الفانتازيا الكوميدية، يتقدم القائد فيها على أنه يجيد فعل كل شيء، بدءًا من قيادة دراجة هوائية، إلى الركوب فوق ظهر شعب كامل طوال عقود. هذه البهلوانية التي تشكل سمة هؤلاء السياسيين، يبدو الخيال معها قاصراً عن الإلمام بحقيقتها، وعن إدراك حقيقة عوالم الجن والسحر وتحضير الأرواح في السياسة، التي باتت شيئاً عادياً ومقبولاً، لعل الكشف عن بعضها-كما فعلنا هنا- يعطينا بعض الدلائل عن سؤال تخلفنا الحضاري. الأمر الملفت، أنه في العصر الذي نشهد فيه قفزات علمية هائلة في مختلف ميادين الحياة، فإننا في ذات الوقت نلاحظ عودة لأعمال السحر وللخرافة والشعوذة. نحتاج في المنطقة العربية إلى تفكيك الكثير من جدران المناخات الثقافية والفكرية والاجتماعية والسياسية والاقتصادية السائدة في معظم الأنظمة العربية، بهدف تحقيق بعض التغيرات تفضي إلى الخروج من مستنقع الفكر الغيبي الأسطوري، والمضي نحو دروب العلم والعقل والمعرفة والتكنولوجيا، والتعامل مع معطيات القرن الحادي والعشرين بقدر أعلى من العقل والثقة، لكي نتمكن من بناء أجيال وشعوب لا تستمرئ الذل والخضوع. لم يغيب الجن والسحر والشعوذة من المطبخ السياسي العربي، ولا تتم مقاربة الأحداث الهامة الكبرى دون اللجوء إلى تحضير الأرواح والكهنوت السياسي. وهكذا أصبحت كتب السحر والجن والطلاسم “البيان في علم الكهان” و”الجان الأحمر للزعيم الأفخر” دساتيراً للأنظمة العربية، والمجلد الرابع ” السر السابع للشعب الخاشع” مرجعياتهم الفلسفية. * كاتب وباحث فلسطيني مقيم في الدانمارك 1. وسوم