ليس القمع والتضييق والحصار وحده ما يقتل مؤسسات التمثيل والوساطةالسياسية، ثمة قتل أخطر وأسواء من التخويف و التهديد أنه قتل بطريقة أخرى لا يدركها الجميع، حيث يتم دفع التنظيمات السياسية لتقتل نفسها بنفسها، إنه “القتل الرمزي البطيء” وهو سلاح صامت يستخدم إستراتيجيات التحكم في الفاعلين والسيطرة على الجمهور، يدفع التنظيمات لتصبح متقاتلة منقسمة ومتعادية تدمر نفسها، حيث تركبها قوى التحكم وتحقق مطامعها، عبر تكسير وحدتها ووحدة إرادتها ومقاومتها للفساد والسيطرة، بل ويتم تجريدها من امكانية البقاء والاستمرار. يقوم بالقتل الرمزي تحالف مراكز القوى المتحكمة في مفاصل الدولة وادارة اللعبة داخل النظام السياسي ، بالتزامن مع عمليات سياسية وإعلامية واقتصادية متوازية ومتداخلة، وتقوم بذلك جهات متخصصة بمناهجها ومعرفتها بالبنية الإجتماعية والسياسية– للتنظيم المستهدف – ودراساتها حول تفاصيله ومسيرته التاريخية وواقعه ونوازعه وقيمه، والعمل بطريقة محسوبة ودقيقة وبإدارة ماهرة ليوضع هذا الواقع في خدمة أهداف السيطرة والتحكم وإستغلاله لتدمير وحدة هذا التنظيم وإعاقة قدرته على المقاومة والبقاء والفعل، عبر منهجية "الوظيفية التبخيسية للعمل السياسي" لتحقيق إستراتيجيات اللعبة ، حيث تتم العملية عبر المزاوجة بين إسلوبين: الأول :يقوم على جعل التنوعات الداخلية للتنظيم السياسي منقسمة يصنع كل تنوع لنفسه تيار سياسي يصور به نفسه أنه هو من يملك الحقيقة المطلقة ، ويتم دفع هذه الانقسامات على تصور أن النضال والحقوق لها معنى طائفي (وتغييب شعور الانتماء ) لان ذلك يحقق ذاتها ، وبالتالي يصبح التنظيم مكسرا متعاركا لأتفه الأسباب التي يتم صنعها وتصعيدها وتلقفها، بإعطاء التجاذبات السياسية معنى طائفي ، وطمس مشاعر الانتماء عبر ذلك. الثاني: جعل “الخلية السياسية” تقوم بقتل نفسها بنفسها نيابة عن العدو الخارجي عبر تسلطها على بعضها البعض في حروب داخلية بين تنوعاتها وفروقها الفردية ، إنه تحفيز البنية السياسية لتتصارع وتتقاتل، ومن ثم تحقيق تخريبها وجعلها متقاتلة ومعادية تأكل بعضها البعض دون توقف. وهكذا كنتيجة للمزاوجة بين هذين الأسلوبين تصبح كل الأخطاء مبررة، وتعامل الافراد والجماعات المنقسمة والمتصارعة مع الأمور التي يرفضها التنظيم ولاتدخل في تصوراته ومرجعياته مبررا بل ومفاخرا به ويتم تصويره على إنه حق وضرورة، بينما العلاقة مع الأعضاء في التنظيم الواحد فتصبح علاقة خصوم وأعداء ، ويصبح التواصل المشترك داخل الحزب الواحد إنقسامي متعارك، كل طرف يبحث عن تيارات موهومة على حساب وحدة الحزب وإستقلاله وارادته، وتصبح مواقع التواصل الاجتماعي هي الحكم بين افراد وجماعات التنظيم السياسي. وهكذا يصنع هذا الإنقسام بمخاضه حدود وحواجز ومعارك داخله، تجعل من التنظيم عليلا مريضا كسيحا وغير قادر على صنع ارادة موحدة ، يفتقد لإرادة البقاء كوحدة سياسية واحدة، فيتحول الواقع السياسي إلى وبال على البقاء والاستقرار والوحدة ، ويمنع قيام ارادة جامعة لها موقف ورأي موحد من القضايا المصيرية، وهو ما تستفيد منه ادارة اللعبة داخل النظام السياسي ومشاريعها واستراتيجياتها عبر الوظيفية التبخيسية، فتمتطيه وتركبه وتضرب عبره ضربتها، في نفس الوقت الذي يعتقد فيه المنساقين مع هذا الإنقسام واوهامه إنهم يحققون ذواتهم ويقومون بالواجب بل ويفاخرون به، هذا وتتم عملية" القتل الرمزي"هذه عبر إحداث الإنقسام الداخلي بالإستفادة من: التعصب للمواقف: يتم استغلاله واستخدام عصبياته الغبية العمياء (مدحا وقدحا)، ويستفاد من صعود الإنفعال فيه، عبر معرفة تفاصيله ونوازعه وانتقائها والطرق اعلاميا عليها، وتلقف عناصرها وتشجيعها واعطائها مداها، والنفخ فيها عبر معرفة دقيقة بديناميكية التعصب في التنظيم السياسي كحلقة قوية في البنية التنظيمية لها سطوتها على الافراد داخل المجتمع الحزبي، بالاستفادة من التجارب القديمة (الاحزاب التاريخية وانحلالها) وايضا علاقتها بالاغراءات والمغانم ، فالذات الحزبية لها سطوة تعويضية يلجاء ويحتمي بها الافراد كمعقل سياسي أعمى، فتنشأ التيارات الحزبية المتقاتلة والمتحاربة ويصعد الفخر الغبي الاعمى بينها لأتفه الاسباب، فتتعارك وتتقاتل دائما لتحقق إنتصار الفرد وهزيمة الحزب بشكل واضح جدا. الطائفية والانقسام: يتم إشعال حالة طائفية وتصعيدها والطرق عليها عبر الإعلام وتصريحات الأفراد (مع – ضد – مخزني – مبدئي – مصلحي –تيارالاستوزار ) بالاتهام والتعرض وتقسيم الافراد على التيارات وتصعيد وإطلاق أوصاف بشكل مقصود ومبرمج ومدروس، وسرد مضلوميات و تهم، وبشكل غريب يتم إستدعاء حوادث تاريخية وجعلها خبز التفكير اليومي، وهكذا يصنع هذا التصور عبر الزمن شكله القتالي والسياسي وتتلقفه العقليات وتتمترس عليه ويصبح الصراع الطائفي هو المفسر للحياة اليومية، بدفع من إدارة المطبخ السري و الإعلام ، الذي يضع المصطلحات في عقول وعلى ألسنة العامة. هذا ويتم العمل على ذلك عبر إدارة اللعبة ، بإدارة قوية وماهرة ومنظبطة ومخطط لها، عبر معاملها ومراكزها الاقتصادية والاعلامية والسياسية وحتى الحزبية ، بما فيها إستخدام المحامين والحقوقيين– كما حدث في قضية الدكتور حامي الدين –فكل شي يمكن إستخدامه وإستغلاله بشكل جزئي او كلي، إنها الوظيفية السياسية التي تستغل كل شي بما فيها الحياة الخاصة والإنسانية لتحقيق أهدافها بوضع كل ذلك برسم الإستخدام والإستفادة، إنها في الحقيقة القذارة لتحقيق القتل الرمزي والسياسي للأحزاب. كما يتم بشكل مخطط له إنشاء وإقامة وتسخير منظمات المجتمع المدني التي يتم تدريبها، ومراكز بحوث ودراسات ومؤسسات اعلامية (قنوات اعلامية تلفزيونية بقضها وقضيضها) لأحزاب (منساقة مع اللعبة وتعمل معها) تعمل في نفس المشروع تخاطب الرأي العام وتغريه وتحاول السيطرة عليه كما تقوم بتبني باحثين وحقوقيين ورجال قانون وأساتذة جامعيين يعملون في نفس المنهجية يوفرون لها المعلومات والدراسات والتفاصيل، ويكونوا جنود لمشروعها سوى بقصد او عن غير قصد عبر وقوعهم في فخ (التجنيد السياسي). وهكذا تصبح البنية السياسية للدولة المستهدفة تحت وقع"القتل الرمزي والسياسي" عبر مجهر إدارة اللعبة وسطوتها وآلتها التي لا ترحم، تتلاعب بها كيفما تشاء، فتقوم أيادي اللعبة بإدارة هذا الإنقسام وتصعيده ودفعه للتسخين والإنفعال والإشتعال واللعب به وعليه دون أية رحمة او شفقة. هذا وتقوم أذرع إدارة اللعبة وأدواتها – سواء على مستوى الخريطة الحزبية ككل او مستوى التنظيم السياسي المستهدف– بالإستفادة من أية حادث عرضي، سوى مشاجرة أو تصريح، او تقوم هي نفسها عبر اللعبة القذرة بصنع حوادث معينة لزيادة حدة إشتعال الإنفعال والإحتراب وفق الإنقسام وشكله ، ويلعب العمل الإعلامي (عبر الجواسيس والتقارير والصور والمقاطع) الدور الأكبر في ذلك، عبر قصف تمهيدي بالمصطلحات وتسخين الأوضاع وفق منهج محدد بدقة، ويتم وضع كل ذلك تحت مجهر التواصل والمتابعة والطرق الإعلامي والسياسي، عبر السطوة الكبيرة على وسائل الإعلام والتوجيه والتأثير على المتلقي والمشاهد، وعبر المنظمات الاعلامية والإجتماعات وحتى السياسية، والأهم فرق أجهزة خبيرة في التخريب السياسي والتي لا ينتبه لها عامة الناس. وهكذا تأكل الناس الطعم، وعبر الهيجان فتصنع العصبية إنقسامها، وتنجرف في ثقب الفتنة الأسود، ويزداد الأمر حدة مع أبسط حادثة، وتنفتح أفواه ، ويصبح الإنفعال والمنفعلين يتصدرون المشهد، وينجرف معهم بعض المتثيقفين لقيادة هذا الإنقسام، في حالة تعارك وتعادي وتحارب، ويتحول التنظيم الموحد إلى حالة من الحرب الداخلية التي لا تنتهي تستمد ديناميكيتها من التجاذبات اليومية، وتصبح الحقوق طائفية وينعدم الحديث عن الاصلاح والإرادة وتنعدم وحدة. الأمر الذي نراه جليا في ما يجري في تنظيماتنا السياسية بكل التفاصيل في (حزب الاستقلال – الاتحاد الاشتراكي– حزب العدالة والتنمية وثمة تنظيمات أخرى مستهدفة)، حيث تم تحويل أحزابنا إلى أحزاب متقاتلة سهل إشعال الصراعات الداخلية فيما بينها. ان الباحثين في علم الإجتماع السياسيي، ومراكز البحث الجامعية الأكاديمية في هذا المجال مدعوين بقوة إلى تمثل دورهم المهم والقيام بمهمتهم التي لا يمكن لأحد غيرهم القيام بها، فالسياسة تتعرض لعملية "قتل " يستهدف وجودها ورمزيتها عند الناس(حرية التعبير – الديمقراطية – التناوب – السلم الإجتماعي – والإرادة)، وأيضا مستهدفة كتنظيمات يتم اليوم العمل على تفتيتها وتقسيمها وإضعافها و وقتل الفاعلين فيها معنويا، وعلى مدرسة علم الإجتماع السياسي أن تتصدى لمنهجية (تحويل الإنقسام السطحي الوهمي الى إنقسام حقيقي واقعي)، وشرح ذلك وتبصير المجتمع به. والله من وراء القصد * طالب بسلک الدکوراه تخصص العلوم السياسية