الأحزاب العقائدية، القومية والماركسية واليسارية والعلمانية، مأزومة ومنسيَّة. لا تظهر فاعليتها إلا في مناسبات تخصُّها وحدها: أعياد التأسيس، ذكرى قادة، تمرينات سياسية انتخابية، حتى يقال: «الضرب بالميت حرام». «الأحزاب» الطائفية والمذهبية والتيارات المتفرِّعة عنها، تعيش فائضا من الحيوية والنشاط، بلغ حداً يكاد فيها كل حزب أن يكون دويلة، تنافس الدولة التي أفرغت من داخلها، وتنافس الدويلات التي تشبهها وتنازلها في الشارع ومن بين المتاريس السياسية والعسكرية. الأحزاب العقائدية، فقدت نخبة أعضائها وكادراتها ومثقفيها ومهنييها وإعلامييها، وتخلّت عنها بيئات حاضنة من جنسها، في الجامعات والمدارس والأساتذة والنقابات والمصانع والمعامل ومراكز التأثير الإعلامي... ومن ظل على صراطه المستقيم فيها، يتحسَّر على حقبة ولَّت، وقيادات أفلت، وأحلام ضؤلت، وحيوية فُقِدَت... الرفيق الحزبي اليوم، يمارس الكسل الحزبي، ويكتفي براحة ضمير، تبرر له عدم خروجه من الصف... هي أحزاب فقيرة راهنا بالمنتجين فكراً وغلالاً وشعرا وسياسة وموسيقى وصخبا وضجيجا وتظاهراً بقبضيات تقول للحاكم إياك... ونحن هنا. هي أحزاب تعبت منها روزنامة الزمن، لأنها تجرجر حكاياتها التي لم يعد أحد يريد الاستماع إليها، أو الالتفات صوبها. «الأحزاب» الطائفية والمذهبية، تغص بالأتباع. في الأحزاب العقائدية، المبدأ، هو الانتساب الحر والالتزام الطوعي. مع الطوائفيات، الالتزام هو ابن الاتِّباع. تكتظ الأحزاب الطائفية بجمهورها، وجمهورها يفيض عن حاجتها. لم يصل حزب عقائدي في لبنان من حيث الحجم، إلى مستوى حجم فرع عائلي من طائفة ما أو مذهب ما... يولد الإنسان طائفيا ويدلف إلى حزب الطائفة بثقة الأعمى (فاقد البصر والبصيرة). يصير الطائفي حزبياً بالطبيعة، فلا مشقة قراءة وتفكير ونقاش ومساءلة واقتناع. للطائفي حضنان: حضن أمه وحضن حزبه. من صدريهما يرضع ويرتوي. ولهذا، تشغل الأحزاب الطائفية الحيز السياسي والأهلي والتربوي والإعلامي والاقتصادي والإداري، وقد تعبر الحدود (لتشتغل) وتنشغل بالقضايا الإقليمية، التي كانت ذات لغة، تدعى، قضايا قومية. هذه الأحزاب، تملأ الساحة بجدارة الانتساب والانتظام والانفعال والتحدي والاستجابة. ولم تترك لأحزاب العقائد، سوى «التكية»، أو «الزاوية» لممارسة طقس الكلام المعاد بلا فائدة. السياسة في الأحزاب الطائفية فعل لازم للذات ومتعدٍ على الآخر. السياسة في الأحزاب العقائدية راهنا، هي ان تتفرّج على أحزاب الطوائف، فتقاتل إلى جانبها، طمعاً بمقعد نيابي، أو (يا للمذلة!) طمعاً بترشح على لائحة. أحزاب الأحرار تكاد تصبح تابعا لأحزاب الأتباع من الطوائفيين. لهذا، الطوائف امتلاء والأحزاب خواء. ولم يحدث هذا الخواء، إلا لأن النخب الحزبية قد تخلّت عن أحزابها، واكتفت بتحميل القيادات الحزبية، مسؤولية ما آلت إليه أوضاع الأحزاب. وكأن الحزب ملكية خاصة لقادته، أو ملكية دائمة له، والاصلاح مستحيل... يخرج الحزبي العقائدي على حزبه بسهولة، بحجة ان القيادة غير ديموقراطية، فاسدة، متآمرة فيما هو والديموقراطية نقيضان. يخرج من حزبه وعليه، حاملاً سيف التشهير بقياداته، متخطياً مسؤوليته التي تفرض عليه البقاء في الحزب الذي اختاره بحريته والتزم به وأصبح واحداً من ?مالكيه? المعنويين. «الرفيق»، حزبي رخو. «الأخ» (في أحزاب الطوائف) «رفيق» صلب. قلَّما نجد طائفياً منخرطاً يخرج على زعيمه الطائفي، أو يتخلى عن نسبه المذهبي، أو يغدر بالرابطة الطائفية. قد يتذمر، قد يهان، قد يمكر به، وألف قد من وسائل الانتهازية، ومع ذلك، فهو جندي «سنكي طق» مع طائفته وزعيمها. الطائفي، ملتزم ومؤمن بقضيته الطائفية، يدافع ويذبُّ عنها ويلوذ بها ويبذل من أجلها، وقد يستشهد دفاعاً عنها، هجوماً على سواها. الطائفي، لا يخون طائفته إلا نادراً. كانت تلك ?الخيانات المباركة? كثيرة في السابق. لقد تضاءلت اليوم، وبات الالتحاق المبرم هو القاعدة. الخارجون على طوائفهم، إما هامشيون أو يؤجرون جهدهم في تيارات طائفية أخرى، ويزايدون كأنهم من الرواد، ضد طائفتهم. هو طائفي سيئ في الحالة الأولى، وطائفي أسوأ، في الحالة الثانية. في الأحزاب العقائدية، نزف دائم، لضعف الثقافة الحزبية، ولفقدان المناعة النضالية، ولتفشي الانتهازية السياسية الرخيصة. أمراض الأحزاب العقائدية، أخطاؤها، عيوبها، مثالبها، تسلط قياداتها وفسادها... لا يقاس أبداً بأخطاء وارتكابات ومثالب وفساد طبقة القيادات الطائفية، المتسلسلة من رأس الهرم في عاصمة الطائفة، إلى القيادات المناطقية والمحلية. ومع ذلك، تشد القضية الطائفية ?الأخوة? في التنظيم، ويتم التغاضي عن الفساد، أو يشتركون فيه، بحصص بخسة، تزداد أو تقل، بمقدار اقترابها من المركز، أو من الزعيم وحاشيته، أو بمزيد من الخضوع والزحفظة. لا تستقيم النظرة إلى العقائديين في أحزابهم والطائفيين في تياراتهم. تظل الأولى في مقام أرفع، فيما ينحدر الطائفي إلى الأسفل. فالملتزم الحزبي العقائدي، كائن حر، يقوده فكره، شريعته عقله، مشاعره ترجمة لمقام القضية السياسية التي يؤمن بها ويصونها... وفيما ينظر إليه ككائن حر، جدير بالاحترام، نجده ايضا ضحية لحريته. الطائفي، يقيد نفسه، يبيع حريته بالالتحاق. الحزبي العقائدي، يجسد حريته بالالتزام، ويسوِّرها بإطار نضالي أخلاقي ولكنه لا يتنبّه لمخاطر الحرية وانزلاقاتها. لم يدرك الحزبي العقائدي، أن حريته، عندما تنتظم في أطر نظامية، تتحول إلى التزام بقوانين وأنظمة تقيّده، وأن المسؤولية، تفرض عليه أن يخوض نضالاً مزدوجاً: نضال في الداخل، بالوسائل الديموقراطية وبالأطر النظامية وبالقيم المناسبة، لبلوغ الفعالية الحزبية، ونضال خارجي، عادة ما يكون، برغم قسوته، أسهل من النضال الداخلي. لم تعرف أحزاب العقائد، نضالاً داخلياً، يعتمد نقداً لا اتهاما، تستقبله القيادات وتصونه وتتطلع إلى حوار دائم مع الجميع. الأحزاب تقاد بالأمر، ولكن يصاغ الأمر بالحوار، وتصان الأحزاب بثقافة البناء. لا نضال داخلياً في أحزاب الطوائف. من يجرؤ من ?حزب الله? على النقد؟ من يقف ناقدا لرئيس حركة ?أمل?؟ من يجرؤ على عدم مسايرة الجنرال عون، وعلى عدم المساس بحاشيته التي من عائلته؟ من يجرؤ على سعد الحريري وآل الحريري، والحاشية؟ من يجرؤ على زعامة وليد جنبلاط؟ من يتقدم على سمير جعجع وحاشيته؟ المسيحيون مطوَّبون ?لجنرال? و?قديس? و?رئيس?. السنة لم تأخذهم العمامة، بل الملاءة المالية والسياسية. الشيعة بين ?ولاية فقيه? و?فقيه? السياسة. أما الدروز فموحدون بلا هوادة. قادة الطوائف معصومون، وأتباعهم يرددون القول المأثور: «نحن مع روما ولو قادتنا إلى الجحيم». قوة الطوائف من قوة الأتباع. ضعف الأحزاب من ركاكة الرفاق، الذين اعتادوا على مقولة: إن لم يكن ما نريد، فلا نريد ما يكون. الرفاق استبداديون، نزقون، يهددون بالانسحاب، لدى كل صغيرة أو كبيرة. ما اعتادوا على الروح والسلوك الديموقراطي. ما عرفوا ماذا تعني الخسارة، وتحمل نتائجها، وإمكانية تحويلها إلى فرصة... كل الذين ينتقدون القيادات الحزبية الراهنة، أو من تنكبها بعد الحرب، كانوا ينتقدون القيادات السابقة. عدد الحزبيين الذين خرجوا من أحزابهم بالآلاف المؤلفة. هؤلاء خرجوا وحملوا على القيادة التي كانوا فيها، وهم لا يزالون يحملون على قيادات سابقة او لاحقة او راهنة. لم يؤسسوا في الداخل، نهج الحوار الدائم، لا هم ولا قياداتهم. استسهلوا الخروج، فماذا كانت النتيجة؟ لقد فشلوا فشلاً ذريعاً. كانوا جماعة أو مجموعة في داخل الحزب، في حالة نقد وتمرد. خرجوا بعدما فشلوا، وهم، من أسباب فشلهم، لم يأتوا بشيء جديد كخوارج ومنشقين. إنهم كثيرون جداً، بلا وزن ولا فعل، غير الاستمرار، بالنقد الهجومي المهين... تسألهم ما العمل؟ الجواب: إزاحة القيادة، وهم من قبل، كانوا جزءاً منها. وكأن أمراض الأحزاب تختصر بمرض القيادة. يتجاهلون ان الأحزاب مصابة بأمراض كثيرة، وان الرفاق ليسوا ملائكة. صحيح أن الأحزاب العقائدية مأزومة، ولكنها موجودة. لها هياكلها، وان تصدّعت. ومؤسساتها، وان فرغت، لها تراثها وتاريخها، وأن نسبت، لها قوة الاستمرار، وإن ضؤلت. أما الخوارج والمنشقون، فهم على المستوى الفعلي، لا شيء أبداً. قد يكونون أفراداً ناجحين، مثقفين، محترمين، وجهاء، فضلاء... لكن هذا لا وزن له في السياسة. الغبار المتناثر لا يشكل كتلة مهما تراكم. فعودوا إلى أحزابكم. بعقلية التغيير الديموقراطي، لا بعقلية الانقلاب المدمّر. أحزابكم، بحاجة إليكم. والمناسبة لهذا الكلام، جهود تبذلها مجموعات حزبية سابقة، شيوعية وقومية باتجاه انعاش الحالة الحزبية الثقافية والعقائدية والسياسية والنظامية، ولأن المؤتمرات على الأبواب ومناسبات التأسيس داهمة. لقد خسر لبنان كثيراً، عندما تضاءل حجم أحزابه العقائدية، وعندما استفحل أمر الأحزاب الطائفية. لبنان، ضحية غياب الأولى، والحضور الكثيف والثقيل للثانية. فعودوا إلى أحزابكم، بثقافة البناء والعمل، وليس بنزعة الانقلاب والثأر. فهناك فسحة زمنية لهذا المشروع وهناك حاجة وطنية وقومية لهذا الشكل من الأحزاب. إذا لم يكن ذلك كذلك، لا نستغرب ?جبهة نصرة? و?داعش?، بألوان مذهبية متعددة، ولنتوقع المزيد من ?جبل محسن? و?باب التبانة?. أخيراً، كونوا كالطائفيين، واعتبروا أحزابكم طوائف علمانية. وتحملوا مسؤولية تحويلها إلى أحزاب نضالية قوية وذات مهمات تاريخية. وإلا: ?زولوا?، أو: مارسوا الصمت البنّاء.