تعرفنا في بداية هذه السلسلة على أهم الفرق الإسلامية اليوم، والتي تعيش إلى جوار الأكثرية الساحقة من المسلمين الذين يشكلون أهل السنة. وهذه الفرق هي: الإسماعيلية والزيدية والإباضية، وأهمها وأولى الفرق بالتقارب معها هي الإمامية أو الإثني عشرية. ثم عرفنا أيضا موقف علمائنا من الإمامية، وموقف هؤلاء من أهل السنة، وما المطلوب من الجميع. ثم عرضت بضع حلقات لحديث افتراق الأمة على إحدى وسبعين فرقة، واحدة منها ناجية. أما الآن، فسأتحدث عن أشكال الفرقة في عالمنا الإسلامي، في الماضي والحاضر، حتى نعرف أين نضع الخلاف المذهبي بينها، لأن هذا الاختلاف هو نوع واحد ضمن أنواع أخرى.. يتداخل معها ويشتبك في آثارها. وسأبيّن كيف تؤدي الفرقة المذهبية إلى تأسيس الطائفية. أنواع الانقسام طُبع التاريخ الإسلامي بمزيج من الوحدة والتنوع، وكان التنوع يصير أحيانا انقساما وفرقة. وأهم الانقسامات في هذا التاريخ، مما لا تزال حاضرة اليوم، هي: - الانقسامات الدينية: إذ إن الإسلام حافظ على حرية الأديان، وهو ما يفسر استمرار ديانات: الصابئة، والمجوس، واليهود، والنصارى،.. في العالم الإسلامي إلى اليوم. والمشكلة أن هذا الانقسام الديني كان عامل ضعف في بعض الفترات من تاريخ الأمة. - الانقسامات القبلية: ليست القبيلة في ذاتها أمرا سيئا، لذلك حافظ الإسلام عليها، ولم يُلغها، وعمل بها الخلفاء في تجييش الجيوش وتنظيم العطاء.. ونحو ذلك. إلا أن الإسلام رفض القبليَّة، واعتبرها نزعة جاهلية. ورغم ذلك، استمرت هذه النزعة عاملة ومؤثرة أكثر من قرنين من الزمان بعد ظهور الإسلام. ولا تزال القبلية مؤثرة في بعض مناطق العالم الإسلامي إلى اليوم. - الانقسامات اللغوية: إذ نشطت -إلى جانب اللغة العربية- لغات محلية أخرى، أهمها: التركية والفارسية. والإسلام يعترف بالتعدد اللغوي، لكن الذي حدث في تاريخنا أن هاتين اللغتين بالخصوص أزاحتا العربية من بلاد واسعة في الشرق، حتى أصبحت فيهما لغة محدودة الاستعمال والجمهور.. وكان لهذا آثاره غير المباشرة في تقسيم الأمة. - الانقسامات العرقية: لقد دخلت في دين الله أفواج وشعوب وأعراق كثيرة، لأن الإسلام دين عالمي، لا دعوة عنصرية. وقد استطاعت حضارتنا أن تصهر الكثير من القوميات والأعراق في بوتقة واحدة.. لكن الدعوات الجاهلية أفسدت بعض هذا الإنجاز، وحوّلت هذا التنوع العرقي إلى حروب قوميات وشعوب. - الانقسامات المذهبية: وأخطرها وأدومها: خلاف السنة والشيعة. وهذا هو موضوع هذه السلسلة في يومية «المساء»، وإنما ذكرت أنواع الانقسام في حضارتنا لتكون أمامنا صورة عامة للاختلاف الذاتي، ولكي نضع الانقسام المذهبي في موضعه الصحيح، فلا نُحمّله أكثر مما يستحقه، ولا نهمله ونُهون من شأنه. وأمر آخر، وهو أن بعض الفترات التاريخية، وبعض البلدان الإسلامية، عرفت انقسامات متعددة، وهذا أخطر حالات الانقسام، فتداخل فيها ما هو عرقي وما هو مذهبي وما هو لغوي.. وإنما كان هذا خطيرا لأنه يجمع عناصر التفرق أكثر من غيره، فيغذي بعضها بعضا، ويوقَد بعضها بسبب بعض.. ولعل العالمين العربي والإيراني من أبرز الأمثلة في أيامنا هذه على هذا التداخل الشديد بين أنواع الاختلاف، فتوجد من ناحية: قومية تتكلم اللغة العربية وتتدين بالإسلام، وهي في الأكثر على مذهب أهل السنة والجماعة.. ومن الناحية الأخرى تقوم قومية فارسية تتحدث اللغة الفارسية وتتمذهب بالتشيع الإثني عشري. ثم بينهما جوار وقرب، بما يعنيه ذلك من مصالح وتصادم.. وفوق ذلك، تراقبهما قوى كبرى لها مصالحها الخاصة، وحساباتها المبهمة. من المذهبية إلى الطائفية في العالم، ماضيا وحاضرا، طوائف متنوعة، بعضها يقوم على أساس عرقي أو قومي، وبعضها ينشأ بسبب ديني أو مذهبي.. أو حتى لغوي. والعالم العربي والإسلامي لا يخرج عن هذه القاعدة. يقول الأستاذ المرزوقي، بعد أن استعرض بعض المشكلات السياسية في عدد من الدول العربية: «كل هذه التجارب تجعلنا نجزم، دون تردد، بأن خاصية التنوع الطائفي لا تزال مسيطرة على التاريخ العربي الحديث بتعينه الواقعي في الأعيان والمخيالي في الأذهان. وقد لا يكون خروجا عن المعقول لو قلنا إن هذا الوصف يصح على جميع الأمم». لذلك يدعو الكاتب إلى الاعتراف بهذا الواقع تمهيدا لحسن التعامل معه: «إن نكران ظاهرة الطوائف -رغم كونها التركيبة الاجتماعية الأساسية في لحظتنا الراهنة- يقوي الطائفية بدلا من القضاء عليها، ويمكِّن للعدو من التدخل لحماية الأقليات».. وهنا يشير الشيخ محمد القمي إلى مسألة مهمة، وهي قوله: «إن الطائفية التي لا تحس بها بلاد لا طوائف فيها تلعب دورا هاما في كثير من بلاد المسلمين». ليست المذهبية مشكلة في حد ذاتها، بل في جعلها الارتباط الوحيد في حياة الأفراد والجماعات، فوجود الطائفة القائمة على أساس مذهب واحد أمر مقبول.. لكن قد تتحول إلى تكتل شبه «عنصري»، بينه وبين الآخرين هوة عميقة، فتخرج الطائفية من المذهبية. يقول المرزوقي: «مشكل الطائفية العربية ليس نتيجة ضرورية لوجود الطوائف.. فالمشكل علته عدم حصر دور الطوائف في وظيفتها الطبيعية التي لا تخلو منها حضارة، والسعي إلى جعلها مبدأ شموليا إلى حد يستثني كل ما عداها من ضروب الروابط الاجتماعية في وجود الأمة التاريخي. ومعنى ذلك أن المَرَضي في ظاهرة الطوائف العربية ليس هو عين الطوائف، بل النزعة الطائفية».. ولا يقع هذا التحول من المذهبية -أو نحوها من الروابط- إلى الطائفية لزاما، بل قد يحدث وقد لا يحدث، والتاريخ يشهد للأمرين معا، ذلك أن «الطائفة شرط ضروري في وجود الطائفية، لكن صدور الطائفية عنها ليس أمرا ضروريا، بل هو أحد الإمكانات التي قد تحصل وقد لا تحصل.. والمجتمعات البشرية ليست كلها محكومة بالطائفية، مثلما أنها ذات أعراق متعددة دون أن تكون كلها قائلة بالعنصرية.» إذن، المذهبية لوحدها لا تهدد سلامة المجتمع أو وحدته.. وكذلك أنواع الانقسام الأخرى، كالدين والعرق.. وإنما يبدأ الخطر -في ما يراه الأستاذ العلواني- حين يُضاف إلى الانقسام الواحد انقسام آخر، واحد أو أكثر.. فهنا تتعمق الهوة الفاصلة بين أطراف الأمة الواحدة، وتكفي شرارات بسيطة لتحويل التنوع إلى طائفية قاتلة، كالظلم الداخلي، أو الطموح السياسي لبعض المجموعات، أو التدخل الخارجي. وللطائفية المذهبية خصوصيات من حيث طريقة تشكلها وتعبئتها للجمهور. ويحصر الشيخ الصفار سمات الثقافة التعبوية في حالة الخلاف السني-الشيعي في ما يلي: «أولا: التركيز على مواقع الخلاف المذهبي مع محدوديتها، وتجاهل مناطق الاشتراك الواسعة، ويتم في أحيان كثيرة افتعال الخلاف في مسائل جزئية جانبية.. ثانيا: تلمس نقاط الضعف في تراث المذهب الآخر والتشهير بها، حتى لو كانت رأيا شاذا أو موقفا لفرد أو فئة من المذهب، فإنه يجري تعميمها ومحاكمة المذهب وكل أتباعه على أساسها. ثالثا: نبش حوادث التاريخ للتذكير بمعارك النزاع والصراع السابقة، مما يغذي الأحقاد والضغائن ويورثها للأجيال. رابعا: تجريم النقد الذاتي وحرية التعبير عن الرأي داخل كل مذهب في ما يمس قضايا الخلاف المذهبي، واعتباره نوعا من التنازل للطرف الآخر والمساومة على العقيدة والمبدأ. خامسا: تعميق النظرة الدونية على المستوى الديني لأتباع المذاهب الأخرى». وعادة ما يظهر بين رجال السياسة من مختلف الطوائف من يصمم على استغلال الوضع لمصلحته هو، فيستدعي دعم طائفته ويثير النزاع المذهبي مع الآخرين.. وبذلك تتحول المذهبية شيئا فشيئا إلى انكسار داخل المجتمع الواحد أو الدولة الواحدة. وهنا من المخاطر المحتملة أن يتحول رجال الدولة، أو بعضهم، إلى زعماء طوائف وأنصار مذاهب، فلا يحرصون على حماية الدولة ومصالحها العليا، بل ينصرف همهم إلى تقوية هذه الطائفة على حساب تلك، أو هذا المذهب على حساب ذاك.. وهذا كله يمهد لتفكك اجتماعي وسياسي خطير، لا يخرج أحد منه سليما معافى.. بل قد يؤدي إلى انهيار دول وبلدان. والسؤال الأكبر هنا، هو: إذا كان وجود المذاهب أمرا مقبولا ومعتادا في التاريخ والاجتماع البشريين، فكيف نمنع تحول هذه المذهبية «المسالمة» أو «الإيجابية» إلى طائفية تضر بالوحدة أو التعايش؟ والجواب عنه في الحلقات القادمة. يتبع... .