سفيان شعو فنان صغير وموهبة كبيرة: عبدو المغاري واحد من الوجوه الفنية الجميلة في التجربة الشبابية الفنية المعاصرة، ورفيق الإبداع بكل ألوانه، ولد سنة 1993 بقصر “ملعب” بإقليم ملعب والتي تبعد عن مدينة الراشيدية حوالي تسعون كيلومترا، شب وترعرع ب”أكنات”، ودرس المرحلة الابتدائية وبعدها التحق بإعدادية يوسف أزواوي بملعب، حيث أكمل دراسته بالسلك الإعدادي والثانوي بثانوية احماد اباحدو، ثم التحق بجامعة القاضي عياض بمراكش لاستكمال مساره العلمي، وقد كان هذا بمثابة فرصتين مهمتين في حياته، الأولى تتمثل في إكمال مساره الدراسي والانشغال بالبحث في تخصصه، والثانية وهي تطوير موهبته الفنية وإبرازها، خاصة وأنها محطة مهمة للالتقاء بفنانين آخرين وإعلامين، الشيء الذي مكنه من المشاركة بشكل كبير في مهرجانات وأمسيات فنية مهمة، وفي سنة 2014 حصل على الإجازة في الدراسات العربية بالراشيدية، ثم بعدها على شهادة ماستر البلاغة وتحليل الخطاب سنة 2016 بمراكش، وبهذا يكون قد “ضم الفخر من أطرافه” فهو جمع بين البحث وطلب العلم وبين تطوير موهبته الفنية الواعدة. براعة في الفن ودقة في الأداء: كان مولعا بالعزف على آلة “لوتار” منذ الخامسة من عمره، وفي حوار معه يقول “آلة لوتار كبُرت معها في محيطي العائلي، وقد كان ذلك سببا في ميلي إليها، بدأت أحب هذه الآلة حين أرى أخي اسماعيل يعزف عليها، وكنت كلما فرغ منها أحملها وأتناول العزف عليها، حين أحس بإلحاحي ورغبتي في تعلمها، وحاول تعليمي وتوجيهي” وقد اكتشف هذه الموهبة أحد الأساتذة الذي درسه في السلك الابتدائي، منذ ذلك الحين بدأت أولى خطواته في درب الفن، والذي اعتبره بمثابة نافذة يطل فيها على جمهور واسع، يتواصل ويعبر بنغمات وعزف متقن بألحانه، ربما ما لا يستطيع التعبير عنه بالكلمات، وهذا هو دور الفنان، فأجمل وأجود الفنانين هو من يقدر على ترغيب الناس ويجذبهم لمجاورة الفن والاستمتاع بألحانه، هكذا كان “عبدو” يرتقي مدارج الفن والبهاء درجة فدرجة وبأحلام مشرقة وطموح عميق وعال. فالإرادة القوية، والإصرار المتواصل، والنظرة الفنية العاشقة، كلها كانت بالنسبة إليه قاطرة لإنتاج وإضاءة هذا الفن الذي يقدمه بالمعرفة والعلم والانفتاح على الآخر، ضدا على الانزواء والانغلاق على لون غنائي واحد، فهو ينتصر للفنان الإنسان الذي يقبل وينفتح على مختلف الإبداعات والألوان الموسيقية. ويتألق الفنان “عبدو” لأول مرة في المرحلة الإعدادية، حيث شارك في إحدى الأمسيات الفنية الثقافية سنة 2007 التي تنظمها المؤسسة، وهي التي منحتنه صدا كبيرا بين زملائه وأساتذته، ومنذ ذلك الحين بدأ الجميع ممن يعرفه أو يسمع عنه يتعجب ويعجب بطفل يعزف ويغني بآلة لوتار اسمه “عبدو المغاري” كما لو أنه الراحل “رويشة”. ويستمر في المرحلة الثانوية التي كانت مرحلة مهمة في حياته، والتي مكنته من الانخراط في مجموعة من الأندية والأنشطة الفنية والثقافية، يرسم ويسافر من عالم لآخر بشغف، ففي الحقيقة الفنان عبدو متعدد المواهب، وما أبهرني في هذه الشخصية هو هذا التألق الفني الواعد الذي يبعث عن الإعجاب والاستغراب والاندهاش، مبهر في أدائه وواثق بقدراته وبموهبته دونما غرور أو استعلاء، بابتساماته الهادئة وفنه الباذخ ودماثة أخلاقه، كيف لا وهو من أجود الأصوات الشابة الأمازيغية الصاعدة، يشتغل باحترافية ومهنية فنية كبيرة وواعدة، في زمن انتشرت فيه الرداءة والعمل غير المتقن، بصم بجمالية في مساره الفني واستطاع أن يبدع ويطور الأغنية الامازيغية ويعيد لها وهجها، إنه “يبتعد عن الفلكلرة” والفن التنميطي الهجين، ويشق مساره الفني بإبداع وتجديد وبعث الروح من جديد في آلة لوتار بشكل بديع وهادف، بعيدا عن الطابع التقليدي الذي عرفت به آلة لوتار؛ فهو يحاول فتح آفاق أمامها وإخراجها من قوقعتها التي منعتها من التجاوب مع آلات أخرى، ويتفنن في عزفها ويستنطقها باعثا الروح في هذه الآلة الجامدة بأنامله الرقيقة، كونها آلة تخاطب الروح والإحساس في الإنسان بنغمتها الساحرة، فلم تكن “آلة لوتار” لتتكلم وتغري المستمعين لولا هذا الإبداع الفني الماتع الذي يواصله عبدو بصوته الشجي من أجل توقيع حضوره بثبات وعزم حديدين. هكذا يلوح الفنان “عبدو” في سماء الفن نجما براقا، جاعلا من الفن وسيلة للتعبير عن جوائياته وخواطره ومواقفه، ففي سنة 2011 أصدر أول ألبوم موسوم بعنوان “تارزيفت إ-يما” باعتبارها هدية يقدمها إلى أمه، كما أي شخص يكن لأمه كامل الحب والتقدير والاحترام، وقد لاقى إعجابا من طرف عدد كبير من عشاق الطرب الأمازيغي وكل من استمع لأغانيه، والتي تحمل أربع مقاطع مهمة وغاية في الروعة بصوت فتي، وهي كالتالي: “تافويت”، “تيللي”، “إيما”، ثم “أفوس كيفوس”. وبذلك يسعى الفنان “عبدو” إلى منح قيمة عالية للفن الأمازيغي الأصيل، من خلال موسيقى لوتار التي يشتغل باستمرار على تطويرها وخلق نموذج فني خاص به على مستوى الكلمة و اللحن و الاداء. قناعات متيقظة وأفكار منفتحة: يؤمن الفنان عبدو وله قناعة راسخة في أن للفن قدرة كبيرة على التأثير في المحيط /الوسط الذي يُنتج فيه؛ وما على الفنان إلا أن يصنع الذوق من خلال فنه، لا أن ينتظر الجمهور ليصنعه، فضلا عن هذا لابد للفنان أن يكون على قدر غير يسير من الوعي والمستوى الفكري الذي يؤهله إلى التواصل مع الجمهور وينفتح بروح إنسانية، ثم تواصلت هذه التجربة الفنية في المرحلة الجامعية بذكرياتها وحكاياتها، وقد كانت فرصة للتواصل مع جمهور أكبر، وشارك في العديد من الأمسيات بدءا من مدينة الراشيدية وصولا إلى مكناس ما بين سنتي 2013 و 2014، ليحل ضيفا على الإذاعة الامازيغية رفقة فاطمة كبوط، كما تمت استضافته أيضا عبر إذاعة هاتفية من طرف الصحافي والشاعر المغربي نور الدين نجمي بمراكش، من الجنوب الشرقي بمدينة الراشيدية إلى مراكش الحمراء، مدينة مغربية بامتدادات ثقافية عربية إسلامية وأمازيغية وزنجية وصحراوية، مدينة يوسف بن تاشفين وعاصمة المرابطين، حاول فيها الفنان “عبدو” أن يعطي معنى للفن الأمازيغي بروح جديدة إبداعية شبابية، فمدينة مراكش كانت بالنسبة إليه بمثابة متنفس وفضاء واسع لإبراز موهبته الفنية وتطويرها، وهناك أمكنه من التواصل وربط علاقات بفنانين وأناس يحبون الفن ونشطاء جمعويون، فكان يشارك في جل الأنشطة التي تقام في دار الثقافة بالداوديات، وقد فاز بالمرتبة الأولى في إحدى المسابقة الفنية الثقافية بمراكش في العزف الآلي، وقد كانت تلك انطلاقة جيدة في المدينة الحمراء، وبعدها توالت المشاركات مع جمعيات متعددة وفي سهرات من تنظيم أصدقاء منشطي برامج إذاعية و أمسيات، كما تمت استضافته إلى جانب ثلة من الزملاء ذوي المواهب الفتية الواعدة مع الإعلامي حسن بن منصور في برنامج مراكش شباب، ويتحول حلمه من مجرد حلم إلى واقع متواجد، ففي سنة2017 تحقق حلمه في الوقوف على منصة المسرح الملكي والغناء فيه بمناسبة السنة الأمازيغية الجديدة سنة 2018، كما شارك أيضا في مهرجان المحاميد النسخة الثانية بمراكش أمام الجمهور المراكشي بدفقة أمازيغية رائعة. وفي ظل ما يشهده العالم اليوم من إرهاب وقتل وثورات وحراك وعنف، يعتبر الفنان “عبدو المغاري” بأن الأغنية الأمازيغية لاتزال تروج القيم النبيلة فالمشكلة كما يراها ليست في اللغة، بل في طريقة تفكيرنا بهذه اللغة ونسبة الوعي الذي نعبر عنه بهذه اللغة، واللغة الأمازيغية غنية ومطاوعة إلى أقصى الحدود، ولا تزال هناك أصوات تغني للسلام والحب، لأن الفن أساسه التواصل وحب الآخر، والفن بالنسبة إليه الذي يتغنى بالحب والسلام هو الذي سينتصر أمام كل هذا العنف والصراعات. وقد عمل الفنان “عبدو” على تطوير أدائه الفني بشكل مبدع ومتألق يسمو بالمشاعر الإنسانية. إن الفن هو تعبير إنساني، وأمام هذه الهجنة الفنية التي نرى اليوم والتي قد يرى البعض بأنها عادية، ويقول الآخرون بأنها تعكس الذوق الفني للمغاربة والمتتبعين اليوم، فيما كثير من الناس تستفزهم، يرى فناننا الواعد أن المشكل في أغاني اليوم نابع من علاقة الفنان بالجمهور، أي أن الفنان اليوم تابع للجمهور، هو الذي يرسم له معالم مساره وتجربته، فضلا عن هذا موجة الإسفاف والضحالة على مستوى الكلمات والتي أفرغت الفن من مضمونه، كما يرى أيضا أن الفن أصبح يُصنع اليوم من طرف الأنظمة الاقتصادية والسياسية المهيمنة؛ يخدم لها مصالحها وتطلعاتها، لذلك نرى شريحة كبيرة من الفنانين هي التي تحظى بالأوسمة والاهتمام الإعلامي. أغنية “إناس إناس” للراحل رويشة: أغرت الفنان عبدو الأغنية الأمازيغية القديمة في مرحلة معينة، الشيء الذي جعله يغني الأغنية الشهيرة “إناس إناس” لمحمد رويشة وغيرها من الأغاني الأمازيغية العريقة، محاولا إبراز قدراته في اللون التراثي، فكلما صعد إلى المنصة ب “آلته المعشوقة” إلا ويهتف الجمهور ويطلب منه أن يؤديها بصوته الفتي الشجي، وقد غناها في غير ما مرة وفي العديد من التظاهرات الفنية بمراكش، وقد تأثر وأحب الكثير من أغاني المرحوم رويشة، خاصة هذه الأغنية وما تحمله من دلالات وقيم إنسانية، لأنها جاءت في فترة متأخرة من حياته ولذلك لاقت انتشارا واسعا بين الجمهور المغربي والعالمي. وبحماس شبابي ودفقة شعورية فنية متأججة أدى بشكل ممتع أغنية “تاسا تعذبتي أيونو” وهي أيضا أغنية تقليدية عريقة. ويرى عبدو المغاري أن الأغنية التقليدية قد استنزفت في غياب رؤية تجديدية، رغم أنها لا تزال تمارس تأثيرا قويا على الجمهور، لدرجة أن هذا الجمهور لا يستسيغ أحيانا بعد أي محاولة تجديدية، وتعد أغنية ” أتافويت ريغ أكم سالغ” أولى أغانيه، والتي كانت أيضا من أولى تجاربه في التلحين مكنته من التفرد والتميز، وقد غناها في النسخة الخامسة لمهرجان الفنون للشعر المغنى بأكادير وقد نالت إعجابا كبيرا من طرف الجمهور، إنه إبداع متواصل ومسار حافل يسافر فيه فناننا إلى عوالم ويخاطب فيها الإحساس بشغف ودقة متقنة. وفي سنة 2016 أصدر ألبوما جديدا موسوم ب “أيامر” وهي تجربة تجديدية مهمة في مساره الفني الفتي، والذي لحنه بشكل متميز يحاكي فيه رغبته في الوصول إلى واقع أفضل، ومعظم أغانيه انطلاقا من “أسمون” مرورا بأمودو إلى “أسطا”، فيه انتقاد لحياة وواقع يغلب عليه الزيف وتغيب فيه القيم الإنسانية النبيلة. وقد تم توقيه بمدينة تنجداد في حفل نظمته شبكة الجمعيات التنموية لفركلة الكبرى، وهكذا يتحول الفنان عبدو من المحلي إلى الوطني على أمل الفنان العالمي لعامة الناس، يخاطب الشعور الإنساني المشترك، كما أنه له القدرة والرغبة في الغناء بأكثر من لغة بطموح التجديد والأفكار الإبداعية. وبما أن الإنسان في الحياة يحتاج إلى التشجيع والتحفيز حتى يتحمل الصعاب ويبتعد عن الفشل والإحباط، فقد غنى أغنية “أناروز” والتي تعني “الأمل” باعتبارها من أهم وأحب الأغاني إليه، وهي تجربة إبداعية فريدة على مستوى الكلمات واللحن والرؤية الموسيقية، وتتألف من كلمات لشقيقته الشاعرة مريم المغاري، والتي تبعث على الأمل بروح إنسانية وإبداعية غاية في الروعة، فلا معنى للفن من دون أمل ونغم، ولا قيمة للفن دون وجود إنصات لقلق الإنسان ومعاناته، هكذا يشق طريقه الفنان عبدو ويخاطب جمهوره ومحبيه من عشاق الأمل والإبداع الفني، متيقنا من أن دروب الفن ستمكنه من التفرد والتميز والتألق في تجربته الفنية المتميزة والنادرة.