إن المتأمل في قضية موسى عليه الصلاة و السلام وما رافقها من أحداث ووقائع يجدها من بين أهم المواضيع ذات البعد القصصي التي حظيت باهتمام بالغ من قبل الدارسين و المهتمين بتاريخ الأديان والقصص القرآني،بل وتناولها القران الكريم من خلال تيمات مختلفة و زوايا متباينة حسب المجال التداولي الذي جاءت في سياقه… ويعد موضوع “العنف” في قصة موسى من المواضيع التي لا يجرؤ على إثارتها كثير من الدارسين نظرا لحساسيته لدى البعض، لكن الدراسة الموضوعية و الاتصال العقلي المباشر بالنص القرآني أو المتن الإصحاحي كما هو مبثوث في سفر الخروج يجعلنا نصل إلى حضور “العنف” كآلية للدفاع عن النفس في قصة موسى،بل ذهب بعض من تطرق إلى هذا الموضوع باعتباره منهجا في التغيير و سبيلا من السبل لإصلاح الأوضاع الاجتماعية. ويتجلى لنا “العنف” بوضوح في ما أقدم عليه موسى من قتل للرجل العبراني ” وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ ” ،منتصرا بذلك لبني عشيرته،و كأننا أمام لحظة إنسانية عادية تتجلى فيها معاني القبة البشرية التي تنأى بنفسها عن البعد النبوي و المتجردة عن الوحي الإلهي المنزه عن الخطأ. إنها محطة كانت بمثابة علامة فارقة بين لحظتين في حياة موسى عليه الصلاة و السلام،لحظة انتقل فيها من رجل خاضع للانفعال باعتباره جزءا لا يتجزأ من الطبيعة البشرية إلى لحظة الاتزان النفسي والانسجام الداخلي القائم على التحكم في الذات و الانفعالات الفطرية،و كان سنده في ذلك معية الله و توجيه رباني،ثم ما وجده من بحث عن بعض الحلول التتويجية لمعضلته الإنسانية و البشرية، منها مغادرته للبيئة الفرعونية التي كان يعيش فيها و تأثيراتها المتعددة في بناء شخصيته الأولى. إن هجرة موسى إلى مدينة مدين أو “أرض مديان عند البئر”،ساهمت إلى حد كبير في إعطائه الفرصة المناسبة للوقوف مع الذات و التأمل و التفكر بنفس عقلاني تغيب فيه معاني “العنف” و مظاهر الغريزة المندفعة نحو تخطي القيم الإنسانية النبيلة إلى لحظة استحضر فيها المعطى السلمي في تبليغ الكلمة وتوصيل الرسالة و بذلك كان موسى معترفا بخطأ القتل و لاجدوى لفعله وسلوكه و ممارسته ،ثم مقرّا بعدم صوابية ما فعل و اقترف في حق الرجل العبراني فكان قوله:” قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ. قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ ” إن طلب العفو و الصفح من رب العالمين كان بمثابة انتقال من زمن “العنف” إلى زمن اللاعنف و السلم المؤيد بالوحي، والمستلهم من التشريع الرباني و التوجيهات الإلهية المؤسّسة على الدعوة بالحكمة والقائمة على الموعظة الحسنة ، وقد استعان في تحقيق ذلك المقصد بأخيه هارون الذي كان سندًا له وعونًا له على تبليغ الدعوة و الرسالة . إن من العبر المستقاة من قضية “العنف” في قصة موسى و علاقته بالرجل العبراني متعددة و متنوعة حسب عموميتها و نجملها في النقط الآتية: – العنف لا يأتي بخير بل هو سبيل للتفتيت. – العنف معول من معاول الهدم الاجتماعي . – العنف ليس طريقا للبناء الحضاري و الإنساني. – العنف منزلق من المنزلقات الخطيرة لتحطيم الأمم و المجتمعات. – العنف لن يكون أبدا سبيلا في التغيير و الإصلاح الاجتماعي. – الرحمة و اللين سبيلان للتغيير و الفعل في المجتمع. – التعاون و التآزر مدخلان مهمان لأي صناعة أخلاقية و إنسانية. – إن العمل التطوعي و الإنساني نقيض للعنف و سبيل لتأليف القلوب كما حصل مع نبي الله شعيب عليه الصلاة و السلام.