تصريحات النوايا، ذات الطبيعة “العلمانية”، التي أطلقها عدد من رموز قوى “الإسلام السياسي”، قبل سبع سنوات، خلال مجريات الربيع الديمقراطي، لم تبقى مجرد أقوال بل تحولت إلى ممارسات وأفعال، وبرامج وسياسات، تطبق على مستوى الفعل والواقع، عند من البقية الباقية، التي لم تطلها مقصلة الثورة المضادة على مختلف مظاهر المد الربيعي. هذا الوضع يحتاج إلى نظر ومساءلة، لا بدافع التشكيك في تلك النوايا المعلنة سلفا، وما ينتج عنها من سلوكات وتطبيقات حاليا، واتهام أصحابها ب”المناورة” و”النفاق” و”التقية” و”ازدواجية المواقف”، وغيرها من الاتهامات الجاهزة عند خصوم هذه الاتجاهات. ولكن من أجل الدفع بتلك المواقف المعلنة إلى حدودها القصوى، من خلال العمل على تفكيك بنيتها، واستنطاق مكنوناتها، وكشف المسكوت عنه بين طياتها. لا شك أن مهمة مثل هذه تتطلب أولا وقبل كل شيء تحرير النقاش الدائر حول المسألة من كل قوالب التنميط والأدلجة المهيمنة على السجالات السياسية والإعلامية، والتي تضع حجابا يحول دون مقاربة سليمة لهذه القضية، الأمر الذي ينذر بإسقاطنا في عطالة فكرية، تضيع معها فرصة اغتنام ما تتيحه اللحظة التاريخية، من ممكنات اختراق عدد من “الطابوهات” و”المقدسات”، التي لم يكن يجرؤ أحد من “الإسلاميين”، على مجرد الاقتراب منها. سيكون من العبث الفكري الوقوف عند حدود ما يقوله عدد من القادة الإسلاميون، تحت ضغط إكراهات شعبية انتخابية، تنزع تارة نحو المحافظة، حينما تخاطب الجمهور، وتارة أخرى، نحو الحداثة حينما تتواصل مع النخب، مادام هؤلاء يعملون وفق قاعدة عزيزة على كل رجل سياسة وهي “لكل مقام مقال”. كما أنه ليس مجديا البحث في أرشيفاتهم الخاصة لتسليط الأضواء على عناصر التناقض في اختياراتهم وخطاباتهمومسلكياتهم الفردية، مادامت كتب التراجم والسير تجمع على ذلك الثراء الفاحش من المتناقضات الذي يكاد يكون سمة مشتركة بين خطابات وممارسات كل رجالات السياسة، لا في زمننا هذا، وفي مدننا هذه، بل في كل زمن، وفي كل مدينة. يقتضي الأمر إذن مقاربة الموضوع انطلاقا من “موقع محايد” لا يعادي أحدا ولا يسعى للانتصار لهذا الطرف على حساب الآخر، بل يسعى قدر المستطاع إلى توسيع دائرة النقاش لتنفتح على آفاق جديدة، لا تنظر بعين واحدة للقضية، بل تنظر لها بعيون متعددة، وتنصت بإمعان لأصواتها المختلفة بآذان صاغية جدا، حتى تتمكن من جعل الفاعل الإسلامي قادرا على التعبير صراحة بما أصبح قناعة راسخة عنده يبوح بها لنفسه، وفي جلساته الحميمية الخاصة، لكنه لا يجرؤ على الإعلان عنها لجمهوره الانتخابي، الذي يجنح بطبيعته نحو الجمود والمحافظة والتقليد. لنتأمل مثلا، في السلوك السياسي لرئيس الحكومة المغربية السابق، السيد عبد الإله بنكيران، سنجد أنفسنا أمام مجرد إسلامي سابقا، ورجل سياسة حاليا، يمارس السياسة بعيدا عن مختلف أشكال القولبة والتنميط التي تعد من مقتضيات “الإسلامية”، بمعناها الذي تواطأت عليه قوى “الإسلام السياسي”، قبل اقترابها من مربع السلطة، لكنها حينما دقت ساعة ممارستها لشؤون الحكم أدركت كيف أن تلك الأنماط والأشكال وغيرها من كليشيهات “السمت الإسلامي”، أصبحت قيودا وإكراهات تسجن الفاعل السياسي المقول عنه “إسلامي” وتحد من قدرته على الإنطلاق. يمارس السيد بنكيران السياسة، بمعناها الزمني والدنيوي، وما يقتضيه من عقلنة ودهاء ومناورة، كما يقدم نفسه للناس أنه مجرد، إنسان بسيط، يمشي في الأسواق، ويحضر للجنازات، وفق عادة مغربية أصيلة، ولا ينظر للبشر من موقع “الاستعلاء الإيماني”، بمعناه القطبي-الإخواني، الذي يتوهم، أنه يوجد هو وتنظيمه، في “القمة السامقة”، وبقية خلق الله من غير اللتحقين بقافلة دعوته ينزلون إلى قاع “الدرك الأسفل”. في سلوكه تجد تحديا، بل هدما وتقويضا لكل الأبجديات التربوية التقليدية، للنظم والأطر الحركية الأصولية الشمولية، يصافح النساء، ويسخر من نفسه ومن “إخوانه” الذين يصافحون كل النساء إلا الأخوات في الحزب، اللواتي، بدورهن تصافحن كل الرجال إلا الإخوان في الحزب ! إنه شخصية تميل إلى المرح والنكتة، علما أن تاريخ “الإسلاميين” هو تاريخ محاربة المرح واللعب والانفلات، كما يقول آصف بيات، في كتابه “الحياة سياسة” فقد مر عليهم زمن حرموا فيه الغناء بالمطلق، وحينما أباحوه اشترطوا أن يكون إنشادا فقط من دون آلات موسيقية، ثم بعد جهد جهيد سمح للمفتونين منهم بالفن استعمال الدف من دون أوثار ! لكن شباب “الإسلام السياسي” تحرراليوم من مختلف الكوابح التربوية الحركية التنميطية، فهم يصلون ويصومون، كما يستمعون لمختلف ألوان الغناء، بمختلف أشكال الأداء وأنواع الآلات، ويرتادون دور السينما والمسرح، ويدعون في صلواتهم لفريقهم الكروي المفضل بالفوز والانتصار، وقد يكون هذا الفريق ينتمي إلى ما كان يعتبر “دار كفر” ك”البارصا” أو “الريال”. الأمر ذاته، نلاحظه عند الحركة النسوية “الإسلامية”، فهي سعت إلى الاختلاف على الحركات النسوانية “العلمانية” بتقديم خليط بين القديم والجديد، بين التحرر والتقوى، بين التدين والمطالبة بالحقوق، حتى أن أجندة النسوانية “الإسلامية” أشد شراسة وطمعا في الحقوق من نظيراتها الموصوفة ب”الحداثية”، فهي تجمع بين مزايا القديم، وتتبنى محاسن الجديد، من دون أدنى شعور بالحرج أو التناقض. فهي، أي النسوانية “الإسلامية”، مع كل الحقوق التي جاء بها الإسلام للمرأة، وضد كل التفسيرات الذكورية، لما يعتقد أنه تمييز ضد المرأة، كتعدد الزوجات مثلا، وهي في نفس الوقت، لا تتردد في الاستفادة من مزايا “التمييز الإيجابي”، و”المناصفة”، التي ناضلت من أجلها الهيئات التي هي، في حكم أدبياتها، متغربة ومنسلخة عن الهوية. كذلك نجد الإسلاميين التونسين، الذين، وعلى خلاف ما يشاع ويتداول، لم يصلوا بعد إلى مستوى ما بلغه إخوانهم المغاربة من علمنة، على مستوى التمييز بين الحزبي والحركي، وبين الدعوي والسياسي، يلعبون دورا رياديا في تحقيق الانتقال الديمقراطي، من خلال تكييف قناعاتهم الدينية مع المواثيق والمعاهدات الدولية، المرتبطة بحقوق الإنسان خاصة. ولعل هذا ما دفع الباحث الأمريكي الإيراني البارز نادر هاشمي إلى القول أنه إذا ألقينا نظرة تستشرف المستقبل سيتبين لنا أنَّ التحول الديمقراطي في المجتمعات الإسلامية سيظل أيضًا متشابكًا بعمق مع قدرة الفاعلين السياسيين ذوي التوجهات الإسلامية على تطوير شكلٍ من أشكال العلمانية السياسية يتوافق مع التقاليد الثقافية الخاصة بتلك البلدان. إنها مفارقة حقا، أن تتحقق “العلمانية” تدريجيا في المغرب وتونس، على يد قوى، طالما نعتها خصومها بأنها معادية للعقل وللتاريخ والحداثة والديمقراطية. فهل يتعلق الأمر بمفارقة حقيقية فعلا، أم أن الأمر لا يخرج عما سماه الفيلسوف هيغل ب”مكر التاريخ” الذي يأبى أن يحقق الشيء بنقيضه؟