5 – الصورة والتصوير في مجموعة “البلح المر” ونحن نواصل الإبحار بين جمل هذه الكتابة الزئبقية المسماة قصة قصيرة جدا، نتوصل من حين لآخر ببعض المجموعات القصصية لكتاب من المغرب وخارجه تغري بمواصلة الرحلة، غير عابئين بصراع المواقف في تعليقات القراء بين رافض يتهم هذه الكتابة بإفساد الذوق وإشاعة الكسل لا يرى فيها إلا حمار الكُتابِ يركبه الكتاب البغاث الذين لا يقوون على التحليق في الخيال لمسافات كتابية طويلة، وأنها وأنها جنس لقيط ومسخ لا يعرف أصله هل تطور عن الشعر أم عن السرد، لتبقى كتابة نيئة غير ناضجة تعكس فشل البعض في تمثل تقنيات التخييل السردي وعجزهم عن الإلمام بكل تفاصيل الصورة… وبين مدافع يعتبر القصة القصيرة جدا الشكل التعبيري الأنسب لعصر السرعة، وأن ملكة التكثيف وتصوير ذبذبات وتناقضات الواقع الممتد في شكل أدبي مجهري ليست متاحة للجميع، وأنه رغم تغني العرب منذ القدم بالإيجاز فلأول مرة يتحقق القول المأثور (خير الكلام ما قل ودل) وقول أبي العتاهية: وخير الكلام قليل الحروف كثير القطوف بليغ الأثر… ونحن لا نرى في كل ذلك سوى مظهرا من مظاهر الصراع بين القديم والجديد الذي عادة ما ينشب في ثقافتنا العربية عند ظهور أية حركة تجديدية، فرأينا مظاهر له عند نشأة حركة البديع، ومع ظهور الموشحات، وعند بروز الشعر الحر… وها هو الصراع يتجدد اليوم بظهور القصة القصيرة جدا… وخير ما نساهم به في حركية هذا الصراع هو مواصلة تقديم بعض الأعمال الجادة في الميدان، لنقف اليوم على مجموعة (البلح المر) للكاتبة والشاعرة المغربية دامي عمر (فاطمة جحا) . مجموعة “البلح المر” هي باكورة الكاتبة، تضم 107 قصة قصيرة جدا، صادرة في طبعتها الأولى عن دار الوطن سنة 2013 في 154 صفحة من الحجم الصغير افتتحتها الكاتبة بقولها ( أنكتب بغير”ال” التعريف … كي لا أموت من ضيق المساحات. أنا كل ما لم أكتبه بعد) وكأنها تستعيض عن ضيق المساحات في الواقع بضيق الجمل في جنس أدبي أكثر ضيقا وتركيزا… حظيت المجموعة بقراءات ودراسات متعددة ركزت في معظمها على بعض التيمات والقضايا التي قاربتها المجموعة، وحتى لا يقع الحافر على الحافر، سأنزاح عن تحليل المضمون وعن سؤال ماذا؟ للوقوف على نقطة صغيرة في الكيف، خاصة وأن إشكالية القصة القصيرة جدا إشكالية شكل ومبنى أكثر ما هي إشكالية محتوى ومعنى، وإن كنا لا نؤمن البتة بفصل الشكل عن المحتوى ولنا عودة في مقالات أخرى للتفصيل في هذا الشكل الجديد… على أن نقتصر في مقاربة مجموعة “البلح المر” على ملامسة خاصية شكلية وحيدة تتعلق بالصورة والتصوير والمجموعة هي ما فرضت علينا ذلك، و الكاتبة شاعرة ومهتمة بالشعر. لنتساءل جميعا عن خصوصية التصوير في القصة القصيرة جدا؟ وعن شعرية هذه الكتابة المجهرية من خلال المجموعة؟ قبل الغوص في مناوشة التصوير لابد – في البداية- من الإشارة إلى أن هذه المجموعة تسير على هدي معظم المجموعات التي وقفنا عليها لحد الساعة، من حيث النزعة التشاؤمية التي ركبها معظم كتاب القصة القصيرة جدا، سواء في اختيار أغلفة بألوان داكنة، وعناوين تختزل مرارة الحياة وشقاء الإنسان المعاصر او بمضامين تكثر من الشكوى والرفض، ولو وقفنا نؤول عتبات المجموعة وننبش في دلالات عناوين قصصها لفشلت أي مقالة ودراسة عن احتواء التفاصيل… خاصة وأن عناوين القصص ال107 حبلى بالقضايا، المحلية الوطنية والإنسانية، السياسية، الاجتماعية والثقافية، توغل في أعماق الذات لتنفتح على كل الآفاق الواسعة، تصور الواقع وتطوح بالقارئ في حدود الحلم، ليعلن استسلامه منذ البداية، وعجزه عن تسييج كل المساحات التي تنفتح عليها المجموعة في مقالة واحدة مهما كان حجمها… وإذا أضيف إلى كل ذلك رمزية العنوان وشعرية صورة الغلاف وكون عدد من القصص كتبت على شكل أسطر شعرية ناهيك عن توظيف القصاصة لمجموع الأدوات والآليات المرتبطة بالصورة والتصوير سواء تعلق الأمر بالصورة المرئية وما يرتبط بها من ألوان وإشارة إلى أسماء تشكيليين كبار وتوظيف لوحات مشهورة إلى الانفتاح على التشكيل بمعناه العام والاستلهام من العمارة والنحت وتوظيف الألوان في العناوين كما في قصة (ألوان) و (لون لمزاحه) قصة ( تبييض)… والتماثيل في متن القصص كقصة اغتراب التي تصور بطلا في روما (كان غريبا يتكئ على تمثال) ص 114 و في العناوين أيضا مثل قصة “الحمامة والتمثال” ص 109… أو تعلق الأمر بالصورة اللغوية القائمة على استعمال اللغة الشعرية والصورة الفنية، المتمثلة في التشابيه، التعابير المجازية والاستعمالات الاستعارية وسيلة للتعبير…. سيعرف القارئ سبب تركيزنا على “شعرية الق. ق. ج” وسيسوغ سبب اقتصارنا على مقاربة الصورة دون غيرها من تلك التيمات التي عالجتها مجموعة “البلح المر” ودون غيرها من الخصائص الشكلية التي تميز ق ق ج … إن هلامية التصوير في المجموعة فرض علينا التعامل مع الصورة الفنية بمعناها العام متجاوزين المفهوم المتداول عند جان مولينو و جويل تامين في كتاب (مدخل التحليل اللساني للشعر) الذي يقصر الصورة في المشابهة، إلى المعنى العام المتداول عند فرانسوا مورو في كتابة( الصورة الأدبية) لأن مفهوم الصورة عند هذا الأخير يشمل كل الأنماط البيانية القائمة على المشابهة والمجاورة، خاصة وأن كاتبة (البلح المر) هي من رسم لنا معالم طريق هذا الاختيار عندما تعمدت في قصة “حلم” أن تنحى بالصورة هذا المنحى العام عندما قالت: (أتذكر كلبا ينبح (استعارة) ونورسة تغادر موجة (رمز) وأتذكر موجا بشريا يغشاني وأنا طفلة (حقيقة) ألتصق بامرأة مالحة الخد (كناية) أذكر ما تلا ذلك من صمت يشبه المراكب (مقارنة) )ص47 لتزداد هلامية التصوير بانفتاحها على التشكيل ،الرسم ،الرسامين ومختلف الفنون التعبيرية وتقدم صورا فنية تتداخل فيها العناصر المحسوسة بالمجردة فتشكل صورة معبرة تثير استغراب المتلقي بتجاوزها محاكاة الواقع والنقل الحرفي إلى إعادة تشكيل هذا الواقع عبر مخيال مكرو- سردي ، فكانت الصورة عندها ضربا من الكشف عن رؤية أعمق للعالم تسبح بالقارئ في عوالم غرائبية ترسمها الشخصيات كما فعلت بطلة قصة ألوان التي لا تنفك تقطف أقلاما ملونة من شجرة الألوان لترسم الورود ، وفي الحلم لا ترى سوى وردة واحدة نبتت في السقف العاري (زهرة نزيف القلب) ص 104 هكذا تُقدم ” البلح المر” صورا مأساوية تقطر فنية، يفوح منها عبق التشكيل والرسم؛ فهنا قصة (مسافة) تبتدئ وقد ( وقف الرسام بجانب لوحته، لؤلؤة، معرض ضرب رقما قياسيا في عدد الزوار) ص115، وهناك قصة (غرنيكا) ولوحة بابلو بيكاسو تقف ساخرة من واقعنا المغربي ص 103، وهنالك كل من الفنان سالفادور دالي وزوجته غالا في قصة (اتصال ذاكرة) ص 108 يحاكيان معاناة الإنسان المعاصر وشعوره بالوحدة… وعندما تخلط الكاتبة مكونات الصورة وألوانها تهدم العالم لتبني وتشكل عالمها الخاص: عالم انقلبت فيه القيم، وانحطت فيه الإنسانية وأصبح الإنسان يحلم بأن يكون حيوانا، انظر لهذا العاشق كيف غدا يتمنى لو يكون كلبا لما رأى عشيقته تداعب كلبها ف(ابتلع غصته تمدد مكان الكلب وهو يلعن آدميته) ص95… بالصورة اللغوية إذن يمكن جمع كل المتناقضات، واختزال الأزمنة والمسافات وتحويل الكائنات لتشكيل عالم متحول مركب يدور في حلقة مفرغة بطريقة غريبة عبرت عنها قصة “ميتامورفوز” في صورة أغرب (كان مجرد جبنة وضعتها امرأة بعد مخاض بارد… كان فأرا جميلا ووديعا إلى أن أكل قط نصف ذيله فتحول إلى قط شقي طاردته الكلاب… تحول كلبا فظا فانفضت الكلاب من حوله… صار رجلا ليعي فظاظة أن يغدو وليمة للديدان مثل جبنة فاسدة) ص.99… هي صورة موغلة في الخيال لا يمكن حدوثها في الواقع بل يصعب على العقل تصورها… و تتناسل الصورة الغرائبية في تصوير ذبذبات واقع معيش فقد قيمه، واقع يعيش هلوسة وتناقضا غريبا تمرد على الثوابت فصورته قصة ” أفكار مهلوسة” بهذه الطريقة: ( كلب لا ينبح في وجه القط، قط لا يأكل الفأر، فأر ينام في حضن امرأة، امرأة تضع كلبا، كلب ينبح في وجه قط، قط أخرق يهدي الكلب طبق فئران محمصة) ص.93.. هذا هو واقعنا العصي على الفهم استطاعت القصة القصيرة جدا تكثيفه في لوحات دالة، واقع مسخ تتحول فيه الأبطال إلى كائنات غريبة دون سبب معلن ففي قصة “مسخ” وبينما البطل في الفراش انتابه إحساس أنه تحول إلى وحش كفكاوي (وجد نفسه قد تحول إلى حشرة هائلة الحجم) ولما هرع إلى النافذة (رأى الناس جميعا وقد تحولوا إلى سحالي تأكل رؤوس بعضها. عاد إلى جحره سعيدا بكونه “غريرا” محترما) ص77… إن الواقع الجديد التي تحاول القصة القصيرة جدا تقديمه للقارئ، واقع مأساوي، المرأة ضحيته الأولى (امرأة تستنجد.. يتلاشى صوتها تحت ذوي القذائف وصراخ الأطفال وأبواب السيارات) والرجل واقف يتفرج على المشهد (يشاهد أشلاء آدمية ، كاميرا، رجل بلا رأس، رأس تحت الركام ..) ص 68 وعند النبش في طريقة تشكيل هذه الصور ألفينا الكاتبة قد اعتمدت طرقا متعددة في رسم أبعادها ونكتفي بالتلميح لبعض طرق التصوير من خلال أمثلة قليلة ومنها : 1 – التصوير بالرسم : اعتمدت كاتبة “البلح المر” كثيرا على الألوان في مجموعتها لدرجة تستحق الألوان دراسة خاصة، ودفعت بعض الأبطال إلى رسم لوحات معبرة حاولت من خلالها تمرير رسائلها عبر التصوير، كما وقع في قصة “كابوس” لما أتاحت الفرصة لأحد الأبطال ليرسم الواقع في الصورة التالية: (أخذ الفرشاة ورسم على الحائط، الذي كان يسند ظهره، حدود ملكه. وسط اللوحة رسم عرشا وفكر في إلقاء خطاب البيعة رسم رؤوسا مطأطئة بدون أفواه ولا آذان حين انتهى الحفل شعر بالملل، ففكر في العقاب! رسم قضبانا ومقصلة. قطع رأسين فضجت بقية الرؤوس وشقت أفواهها نشر باقي القضبان على اللوحة. انتبه أن ملكه صار سجنا كبيرا أخذ طلاء أسود وصبغ اللوحة كلها تنفس عميقا وهو يتذكر أنه مجرد “شمكار حاكم”) ص50 … مهما استفضنا في شرح وتحليل هذه الصورة فالصورة تعبر عن نفسها خير من أي تأويل وتحليل… وتعتمد المجموعة الوسيلة ذاتها في قصة “لوحة” حيث رجل (يخرج من جيبه طبشورا ويرسم إطارا. وداخل الإطار يرسم كنبة و تلفازا، منضدة، خبزا وكأسا فائرا. يجلس على الكنبة تقفز القطة إلى حجره… يضغط زر التلفاز ويرتشف حسوة من كأسه. ضجرا يطفئ التلفاز يرسم على الحائط عيني امرأة. يدير ظهره للحائط وينام محتضنا قطته) ص 82 هذه مجرد أمثلة تبين كيف ركبت القاصة التشكيل وسيلة لتصوير الواقع… والتساؤل عن جدوى اعتماد هذه الوسيلة، وكيف خدم هذا الشكل من التصوير مقصدية المبدعة ؟ بحث خاص لن ينتهي… 2 – التصوير باللغة الشعرية : وهي الطريقة الأكثر حضورا في متن المجموعة لدرجة لا تكاد تخلو قصة في المجموعة من تشبيه، مجاز، استعارة أو كناية حاولت فيها الكاتبة لَيَ أعناق المتناقضات والخروج عن السنن المألوفة و النهج المعروف في استعمال اللغة: فإذا كان تشبيه القطار بأفعى يبدو تشبيها عاديا فإن الصورة تغدو غرائبية عند تمثيل القطار بأفعى تبتلع فيلا تمشي على سكة مكمشة ( يهتز كثيرا يتقيأ ركابه .. يتقيأ الركاب أمعاءهم يلعنون القطار جميعهم ولا أحد يلعن السكة) 112… لتستمر هذه الغرائبية حتى في أبسط علاقة يمكن أن تجمع رجلا بامرأة لا تبادله نفس الشعور فتقدم قصة صورة تتداخل فيها المشابهة والرمزية لتصور البطل ( رجلا بسيطا تعلق قلبه بها وهي نجمة. قلب عار متعلق بنجمة يبدأ بالسقوط محاولا عبثا أن يتمسك بخيط نور رفيع، فيسقط بين فكي سمكة قرش كانت تتنفس الهواء في الظلام) ص 86 … وقد تتجاوز الصورة علاقة المشابهة إلى المجاورة لتنفتح على المجاز المرسل والكناية، فتختار القاصة جمل تكني بها عما تقصده كما في تصوير نهاية هذا الرجل المزواج الذي تخلت عنه نساؤه بعد إفلاسه و (مات وهو يضم ورقة يانصيب خاسرة ) 87، بواسطة اللغة إذن تبني المجموعة عالما غرائبيا قائما على خرق منطقية الإسناد، فجعل ل( الموجة لسان يتذوق طعم حلم…)ص 105 ويمسي الذين لا يقدرون الحب (دائما طافحين على سطح الأشياء كنخالة) ص 46… وتستحيل كثرة العشاق نقمة (عشاقك يسدون عين الشمس لذلك فشمسك دائما عمياء) 36… والأفكار العظيمة كارثة عندما (تسقط على رؤوس أصحابها حين لا يتوقعونها يصدر عنهم أنين مصدوم يشبه صراخ سنبلة في وجه منجل أو صراخ نملة تحت قبقاب خشبي) والأبطال حربائيين يتلونون مع هذا الواقع المسخ هذا الواقع المتغير فتختار الساردة إنهاء مجموعتها القصصية بقصة أقنعة وكيف استحال عليها معرفة رفيق دربها الذي (لم تعرفه أبدا مفردا) لأنه كان في كل مناسبة يظهر لها بقناع ( أقنعة لبسها لمناسبات كثيرة حمار، حمامة، ثعلب، أسد…) ص 130 فلا غرابة إذن أن تسود في مجتمع هذه صفاته قيم النفاق والانتقام لدرجة أن أحد أبطال المجموعة أقام وليمة لمسؤولين نافذين وأطعمهم شواء لحم حمار فكانت النتيجة أن أصيبوا جميعا بداء النهاق ص 29 بالصورة الفنية يتحقق المستحيل، وباللغة الشعرية أضحت الساردة تسمع أنين الجماد وتتخيل حجم أنين البحر (أستطيع أن أتخيل أنين البحر حين تموت حيتانه على الرمل الجاف وأقدر هذا الألم) ص 42 على هذا النحو سارت الصورة الشعرية تبني تفاصيل عوالم (البلح المر)… التصوير عبر النهل من الأسطورة : بالإضافة إلى التشبيه الاستعارة والمجاز يدرك قارئ “البلح المر” مدى اعتماد المجموعة على توظيف الأسطورة، لكنها تمكنت من تخليص تلك الأساطير من الخوارق والغرائبية وربطها بالواقع لخلق مساحات أوسع، وفضاءات تعج بالتناقض داخل نص مجهري مما يدفعنا للحديث عن قصة قصيرة أسطورة وليس عن الأسطورة في ال ق ق ج… كثيرة هي الأساطير الموظفة في (البلح المر) خدمة للصورة المأساوية التي ترسمها المجموعة، منها ما هو محلي وما هو إنساني، فمتحت من الأسطورة البابلية عندما وظفت أسطورة ( ليليث ) شيطانة العواصف التي تُرافق الريح، تحمل المرض والموت، ونهلت من أسطورة أطلس و الكاهنة الأمازيغية (ديهيا) في قصة “ولائم الجوع”، واعترفت من الأسطورة الرومانية ولما وظفت كيوبيد الطفل الملاك بسهم الحب لتؤسطره وتحيله عجوزا في قصة ( ترنيمة كيوبيد) ( بعد سنين قرر كل منهما أن يبوح لصاحبه بما كان. فتحا فميهما فعلت همسهما ترانيم كيوبيد العجوز ينصبهما كأجمل عاشقين) ص 66 . وعلى نفس النهج حاولت المجموعة أسطرة بعض الشخصيات الإنسانية بمنحتها قوة خارقة تسمح لها بالتحول أو القيام بأعمال يعجز عنها الجن 3 – التصوير عبر النهل من القصص الإنسانية والدينية: وكما استفادت المجموعة من توظيف الأسطورة فإنها انفتحت على عدد من القصص الإنسانية إما بالإحالة عليها من خلال العناوين مثل توظيف (الطفل والبحر) في إحالة على قصة (العجوز والبحر) لإرنيست همنغواي ص 105 أو توظيف أبطال من أعمال أدبية مشهورة كشخصية لوليتا التي استوحتها من رواية للكاتب الروسي فلاديمير نابوكوف ، أو استحضار عبارات دالة كما في قصة “عنف” إذ ابتدأت القصة بعبارة ( كلما دخل عليها ..) في إحالة لغوية واضحة لقصة مريم (كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً )، بل ألفينا بعض القصص تنبني في معماريتها على اقتباس من قصة خلق الإنسان في القرآن كما في قصة (حلم) التي ورد فيها: (نطفة … فعلقة … فمضغة …فعظاما … فكسوناه حزنا ) ص 127 بالإضافة إلى الاستشهاد بشخصيات إنسانية في التاريخ والفكر المحلي الأمازيغي كقصة الملك جوبا في قصة “رأس جوبا” ص 67 ، أو شخصيات أدبية من الفكر العالمي مثل شخصية فاوست من الثقافة الألمانية… ما يستفاد من التصوير في “البلح المر” هو أن المجموعة كانت صورة وصوتا نسائيا حاول تقديم صورة عن الواقع المعيش نيابة عن كل النساء ( قد نكون واحدة … نتمتم فتحمل همهماتنا الريح لقاحا لزهور الألم) ص 85 ، وأن رصد تفاصيل تلك الصورة لم يكن سهلا ويتطلب نفسا طويلا لم تستطع المجموعة الحفاظ على نفس النفس، فكانت بداية المجوعة بقصص طويلة والانتهاء بقصص قصيرة، وأن الصور في معظمها كانت مشحونة بشحنات سالبة، تنقل واقعا مريرا يعيش أزمة قيم حادة جعلت الإنسان يتساوى مع الحيوان وأحيانا يلعن آدميته ويتمنى لو كان حيوانا، فكان توظيف الحيوانات المحيلة على الخسة والنذالة سمة بارزة في الصور التي رسمتها القصص بل تعمدت نزع الصفات الموجبة عن قصد ، فتجاهلت وفاء الكلب لتركز على ما في الذاكرة الشعبية من معان سلبية مرتبطة بهذا الحيوان ، كما في قصة (كلب) (أيها الكلب حتى لو لعقت حذائي فلن أسامحك ظل الكلب هادئا في حضن صاحبه بينما راح هذا الأخير يصب جام غضبه على رجل يكاد يقعي) ص 102، وفي صورة أكثر تركبيا، وأعمق دلالة تستنجد قصة (لقطة) بعدد من الحيوان لتقدم مشهدا بانوراميا يكاد يختزل صورة الواقع: ( الحطاب يتكئ على جذع الشجرة ، السنجاب في أعلى الشجرة يراقب الحطاب، الأفعى التي تسكن الجحر في الأسفل تأكل أبناء السنجاب، الأوراق الصفراء في الربيع العاري لا تستر شيئا… المنشار يشحذ أنيابه) ص 107. وحتى وإن كانت بعض الصورة مسالمة ناعمة بنزعة خبرية تقريرية يفتر فيها التعبير الفني فإن اعتماد مفاجأة القارئ وسيلة لتخييب أفق انتظاره أثرى فنيتها وأدبيتها فقد بنيت قصة (شك ناسف) بناء تقليديا حيث شاب يشك في خيانة الزوجة الشابة لأبيه، ويتضايق من إخوته الصغار الذين لا يرى فيهم إلا مزاحمين له في مال أبيه ويشك في كونهم إخوته… لتأتي المفاجأة في النهاية عندما يكتشف أن والده كان عاقرا ص70. وبيد أن السارد اختار ضمير المخاطب لسرد قصة (واجهات) فقد كانت القصة وبناء الشخصية بسيطا شخص يرى نفسه في واجهة زجاجية ويعتقد أن أحدا يتقدم نحوه ( يرتطم جسده بجسدك كجذع نخلة ، تسقط لا يهتم بك أحد … تدرك فجأة أنك ارتطمت بخيالك في واجهة زجاجية لمتجر كبير ) ص.79 إن الصورة في “البلح المر” مستويات عدة فهي تارة صورة توثيقية ناقلة تصور عالما مألوفا لا يختلف أبطاله في أقوالهم مواقفهم وأفعالهم عما نعيشه في واقعنا، وتارة صورة تخييلية قائمة على غرائبية العلاقة بين الموظف في الصورة والمقصود منها، لتخلق مفاجأة مخيبة لأفق انتظار القارئ، وتارة رمزية لتغدو الق. ق. ج بكل عناصرها رمزا دالا تلتقي فيه الآلام والآمال تمتح من الماضي لتستشرف المستقبل، فتحيل الرمز من قالب جاهز متداول إلى معنى يولد مع معاناة التجربة ويفرض على المتلقي ضرورة ركوب قطار التأويل للوصول إلى بعض ما تتغياه الصورة، التي تتحول من مجرد أداة لنقل المضمون إلى غاية في حد ذاتها، لما تتضمنه من خلق وإبداع ما دامت كل عناصرها متلاحمة وليس هناك عنصر أكثر فعالية من الآخر في معمارية هذه الكبسولة الفنية التي اختزلت الصراع ونقلته من الفضاءات والأكوان إلى عمق الذات الإنسانية متجاوزة المواضيع التقليدية المرتبطة بالاستعمار والقضايا الاجتماعية المستهلكة، ومتجاهلة الأشكال الموروثة بصيغها المسكوكة لتكون عدسة عالية الجودة قادرة على التسلل عبر المسام لقياس نبضات وانفعالات الذات وتفاعلها وتفاعل الآخر معها…. وتصبح الرمزية تشكيلا وبناء للمعنى عبر استدعاء أعلام وأماكن للتعبير عن موقف ذاتي أو جماعي من خلال رموز دينية تاريخية طبيعية أدبية للتخلص من ربقة التقريرية والتعبير المباشر لتنسج أمام القارئ عالما متخيلا يحتل في الرمز مكانة وسطى بين صوت الأنا المبدعة وصوت الشخصية أو الشيء الرمز، فيغدو مختلفا عنهما وإن انطلق من الأنا هكذا تجعل الرمزية من المرأة في المجموعة شخصية نمطية يمكن أن تنسحب على أي امرأة أينما وجدت بعدما أحالتها إلى تجربة شعورية وصورة لفسيفساء في مرايا مهشمة كل قطعة فيه تنوء بما تحمله من مأساوية تلخص كل المعاني السالبة التي يمكن تصورها عن المرأة في الوطن العربي من صورة المرأة العقيم ، المفعول بها ، العانس، الهاربة، لهبيلة، ظل الرجل، المرأة التي لا قلب لها تعيش في واقع يختزل كل الأمراض العقد المرتبطة بالوصولية والانتهازية والانهزامية والاستسلام والنصب والاحتيال تاريخه سلسلة من الخيبات والهزائم والنكسات… لذلك لا غرو أن يقوم هذا المجتمع على التنكر لقيمه. ومن لا زال يحمل ذرة أنفة ما عليه سوى الهروب من هذا الواقع الموبوء إلى الصفاء حيث عالم الكتابة والإبداع فكان أبطال المجموعة في معظمهم رسامين ومخرجي مسرح وكتاب رواية أو قصة أو دراما، شعراء محبطين، يائسين لا قدرة لهم على التأثير في محيطهم أو إحداث التغيير في واقعهم، لا يملكون سوى الجلوس قانعين بفشلهم يدخنون حشيش الأفكار وأقصى ما يستطيعون فعله هو الهروب إلى الحلم وانتظار نهاياتهم المأساوية (السجن الموت والجنون) ليقف القارئ مشدوها لهذه الكتابة الزئبقية كيف استطاعت أن تختزل كل هذه التناقضات في نصوص مكثفة إلى حد الانفجار تسبح في مجراتها صور، رموز و وأساطير محلية، عربية وعالمية كل رمز فيها يستحق كتابا خاصا.