قال الإمام الشاطبي: “كل علم شرعي فطلب الشارع له إنما يكون [من] حيث هو وسيلة إلى التعبد به لله تعالى، لا من جهة أخرى، فإن ظهر فيه اعتبار جهة أخرى؛ فبالتبع والقصد الثاني، لا بالقصد الأول. فالحاصل أن كل علم شرعي ليس بمطلوب إلا من جهة ما يتوسل به إليه، وهو العمل. و هذا لا ينفي كون العلم له فوائد و غايات و مقاصد أخرى غير العبادة لكنها بالقصد الثاني لا بالقصد الأول، فالقصد الأصلي ما تقدم ذكره، وأما التابع؛ فهو الذي يذكره الجمهور من: – كون صاحبه شريفا، وإن لم يكن في أصله كذلك. – وأن الجاهل دنيء، وإن كان في أصله شريفا. – وأن تعظيمه واجب على جميع المكلفين، إذ قام لهم مقام النبي؛ لأن العلماء ورثة الأنبياء. – وأن العلم جمال ومال ورتبة لا توازيها رتبة، وأهله أحياء أبد الدهر، فذلك كله غير مقصود من العلم شرعا، كما أنه غير مقصود من العبادة والانقطاع إلى الله تعالى، وإن كان صاحبه يناله. – وأيضا؛ فإن في العلم بالأشياء لذة لا توازيها لذة. ولكن كل تابع من هذه التوابع؛ إما أن يكون خادما للقصد الأصلي، أو لا. فإن كان خادما له؛ فالقصد إليه ابتداء صحيح. وإن كان غير خادم له؛ فالقصد إليه ابتداء غير صحيح، كتعلمه رياء. العلم المطلوب قال الشاطبي رحمه الله تعالى: كل مسألة لا ينبني عليها عمل؛ فالخوض فيها خوض فيما لم يدل على استحسانه دليل شرعي، وأعني بالعمل: عمل القلب وعمل الجوارح، من حيث هو مطلوب شرعا. والدليل على ذلك استقراء الشريعة؛ فإنا رأينا الشارع يعرض عما لا يفيد عملا مكلفا به. وقد كان مالك بن أنس يكره الكلام فيما ليس تحته عمل، ويحكي كراهيته عمن تقدم. و ضرب مثلا لذلك قائلا: فعلم التفسير مطلوب فيما يتوقف عليه فهم المراد من الخطاب، فإذا كان المراد معلوما؛ فالزيادة على ذلك تكلف. فإذا ثبت هذا؛ فالصواب أن ما لا ينبني عليه عمل؛ غير مطلوب في الشرع. أقسام العلم قسم الشاطبي رحمه الله العلم إلى ثلاثة أقسام وهي: – القسم الأول: هو الأصل والمعتمد، والذي عليه مدار الطلب، وإليه تنتهي مقاصد الراسخين، وذلك ما كان قطعيا، أو راجعا إلى أصل قطعي. و لهذا القسم خواص ثلاث، بهن يمتاز عن غيره: إحداها: العموم والاطراد؛ والثانية: الثبوت من غير زوال؛ والثالثة:كون العلم حاكما لا محكوما عليه. – والقسم الثاني: وهو المعدود في ملح العلم لا في صلبه: ما لم يكن قطعيا ولا راجعا إلى أصل قطعي، بل إلى ظني، أو كان راجعا إلى قطعي إلا أنه تخلف عنه خاصة من تلك الخواص، أو أكثر من خاصة واحدة. والقسم الثالث: وهو ما ليس من الصلب، ولا من الملح: ما لم يرجع إلى أصل قطعي ولا ظني وإنما شأنه أن يكر على أصله أو على غيره بالإبطال. ومثال هذا القسم ما انتحله الباطنية في كتاب الله من إخراجه عن ظاهره، وأن المقصود وراء هذا الظاهر، ولا سبيل إلى نيله بعقل ولا نظر، وإنما ينال من الإمام المعصوم. ويعرض للقسم الأول أن يصير من الثالث، ويتصور ذلك فيمن يتبجح بذكر المسائل العلمية لمن ليس من أهلها، أو ذكر كبار المسائل لمن لا يحتمل عقله إلا صغارها، على ضد التربية المشروعة. ضرورة المعلم و أهميته من أنفع طرق العلم الموصلة إلى غاية التحقق به أخذه عن أهله المتحققين به على الكمال والتمام. فلا بد من المعلم، وهو متفق عليه في الجملة، وقد قالوا: “إن العلم كان في صدور الرجال، ثم انتقل إلى الكتب، وصارت مفاتحه بأيدي الرجال”. وهذا الكلام يقضي بأن لا بد في تحصيله من الرجال. شروط العالم فإذا تقرر هذا؛ فلا يؤخذ إلا ممن تحقق به، إذ من شروطهم في العالم بأي علم اتفق: – أن يكون عارفا بأصوله وما ينبني عليه ذلك العلم. – قادرا على التعبير عن مقصوده فيه. – عارفا بما يلزم عنه. – قائما على دفع الشبه الواردة عليه فيه. غير أنه لا يشترط السلامة عن الخطأ ألبتة؛ فلا يقدح في كونه عالما، ولا يضر في كونه إماما مقتدى به. فإن قصر عن استيفاء الشروط؛ نقص عن رتبة الكمال بمقدار ذلك النقصان؛ فلا يستحق الرتبة الكمالية ما لم يكمل ما نقص. العالم المتحقق وللعالم المتحقق بالعلم أمارات وعلامات تتفق على ما تقدم، وإن خالفتها في النظر، وهي ثلاث: إحداها: العمل بما علم؛ حتى يكون قوله مطابقا لفعله، فإن كان مخالفا له؛ فليس بأهل لأن يؤخذ عنه، ولا أن يقتدى به في علم. والثانية: أن يكون ممن رباه الشيوخ في ذلك العلم؛ لأخذه عنهم، وملازمته لهم؛ فهو الجدير بأن يتصف بما اتصفوا به من ذلك. وحسبك من صحة هذه القاعدة أنك لا تجد عالما اشتهر في الناس الأخذ عنه إلا وله قدوة واشتهر في قرنه بمثل ذلك، وبهذا الوجه وقع التشنيع على ابن حزم الظاهري، وأنه لم يلازم الأخذ عن الشيوخ، ولا تأدب بآدابهم. والثالثة: الاقتداء بمن أخذ عنه، والتأدب بأدبه. طرق أخذ العلم وإذا ثبت أنه لا بد من أخذ العلم عن أهله؛ فلذلك طريقان: أحدهما: المشافهة، وهي أنفع الطريقين وأسلمهما؛ لخاصية جعلها الله تعالى بين المعلم والمتعلم، يشهدها كل من زاول العلم والعلماء. الطريق الثاني: مطالعة كتب المصنفين ومدوني الدواوين، وهو أيضا نافع في بابه؛ بشرطين: الأول: أن يحصل له من فهم مقاصد ذلك العلم المطلوب، ومعرفة اصطلاحات أهله؛ ما يتم له به النظر في الكتب، وذلك يحصل بالطريق الأول، ومن مشافهة العلماء، أو مما هو راجع إليه، والكتب وحدها لا تفيد الطالب منها شيئا، دون فتح العلماء، وهو مشاهد معتاد. والشرط الآخر: أن يتحرى كتب المتقدمين من أهل العلم المراد؛ فإنهم أقعد به من غيرهم من المتأخرين، وأصل ذلك التجربة والخبر. فلذلك صارت كتب المتقدمين وكلامهم وسيرهم؛ أنفع لمن أراد الأخذ بالاحتياط في العلم، على أي نوع كان، وخصوصا علم الشريعة.