منذ صادقت الكنيست على قانون القومية العنصري الجديد والذي تجاوزت فيه إسرائيل البقية الباقية من الخطوط الحمراء حتى لم يبقى منها شيء، امتلأت الصحف ووسائل الاعلام بأطنان من المواد الإعلامية التي فَصَّلَتْ في الحديث حول القانون ومدى عنصريته وأبعاده الخطيرة على الأمن والاستقرار والسلام محليا وإقليما ودوليا.. ظواهر لافتة أولها، انه ومنذ النكبة الفلسطينية أصبح للمجتمع العربي الفلسطيني داخل الخط الأخضر وضعية قانونية خاصة (مميزة!!).. أصبحنا حسب القانون الدولي والإسرائيلي جزءا من مواطني دولة إسرائيل، نحمل الهوية والجواز الإسرائيليين، ونمارس حياتنا في الدولة التي قامت على أنقاض شعبنا ومآسيه المتدحرجة حتى يومنا هذا، كمواطنين يحاولون الجمع بشق الانفس بين مواطنة تتعرض لتمييز عنصري وقهر قومي هو جزء مركوز في عمق الأيديولوجية الصهيو – يهودية، وبين انتمائنا لشعبنا الفلسطيني وامتنا العربي والإسلامية وفضائنا الإنساني الواسع.. مررنا على امتداد السبعين عاما الماضية منذ قيام إسرائيل بكل فصول الجحيم الإسرائيلي، ابتداء من العزلة الكاملة عن شعبنا وأمتنا والعالم الخارجي منذ العام 1948 وحتى العام 1966 (الحكم العسكري)، ثم شاء الله سبحانه ان يلتحم ضلعنا الفلسطيني مع الضلع الثاني في الضفة الغربيةوالقدس وقطاع غزة بعد هزيمة العام 1967، فكانت بداية عودة الوعي او تعزيز الوعي بعد 19 عاما على النكبة وضياع فردوس الله في أرضه.. بعد توقيع مصر والاردن على اتفاقيات السلام مع إسرائيل، انفتحت علينا نوافذ جديدة ساهمت هي أيضا في تعزيز وعينا وتنظيم صفوفنا وتقوية بنيتنا العلمية والوطنية على حد سواء.. اما اتفاق (أوسلو) بين منظمة التحرير وإسرائيل، فقد أكمل الدائرة من حيث التحام الاضلاع الفلسطينية الثلاث، وهذه المرة مع الشتات الفلسطيني في الدول العربية والعالم. إلا ان هذا الاتفاق أعاد (كابوس النكبة) مجددا من حيث استئناف الحديث علنا عن ان الأقلية القومية العربية الفلسطينية في إسرائيل ليست جزءا من مفاوضات السلام بين فلسطين وإسرائيل، ولا مكان لخلط الأوراق في هذا الشأن بأي حال من الأحوال.. كان هذا مطلبا إسرائيليا استبقت به إسرائيل محاولة متوقعة ربما للبحث عن معادلة تحسن من وضعنا القانوني وتجعل للامتدادات الفلسطينية عبر حدود العام 1948 في إطار عملية سلام من أي نوع، مردودا قد يعزز من وضعنا القانوني داخل اسرائيل.. انعكس ذلك سلبا على أكثر الملفات السياسية والإنسانية على الاطلاق، وهو ملف الاسرى السياسيين من الفلسطينيين مواطني دولة إسرائيل، الذي دخلوا السجون قبل اتفاقية أوسلو بتهم الكفاح المسلح ضد إسرائيل كأعضاء في منظمات فلسطينية كحركتي فتح والجبهة الشعبية، والذين كان من المتوقع ان تجري عليهم بنود الاتفاق المتعلقة بتحرير الاسرى، إلا ان إسرائيل رفضت شملهم تحت هذا البند بدعوى انهم "مواطنون إسرائيليون!" لا تسري عليهم بنود اتفاق أوسلو!! جاءت فاجعة هذا السجال صاعقة عند الانتهاء من مفاوضات تبادل الاسرى (صفقة وفاء الاحرار/شاليط) والتي كان من المفروض ان تُحَرِّرَ أيضا أسري وأسيرات الداخل، إلا أن الأمر انتهى ب – "لعبة!" اسرائيلية قذرة أبقت اسرانا وأسيراتنا خلف القضبان بينما تحرر أكثر من ألف من الاسرى والاسيرات الفلسطينيين.. مثل ذلك وقع أثناء المفاوضات التي جرت بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل في العام 2014 برعاية وزير الخارجية الأمريكي الأسبق كيري، والتي تم خلالها تحرير 3 دفعات من الاسرى الفلسطينيين، وبقيت الدفعة الرابعة التي شملت أسرى الداخل، حيث رفضت إسرائيل تحريرهم بنفس الحجة الواهية… ببساطة تعاملت إسرائيل مع اسرانا وأسيراتنا كفلسطينيين حيث كان يمكن لجنسيتهم الإسرائيلية ان تنفع، وتعاملت معهم كإسرائيليين حيث كان لانتمائهم الفلسطيني ان ينفع.. لعبة قذرة بكل المعايير.. جاء قانون "القومية" ليجمع الشعب الفلسطيني كله من جديد، حيث جعل القانونُ الشعبَ الفلسطينيَّ كلَّه في فلسطين التاريخية في مرماه، منتزعا منه حقه في امتلاك وطنه وروايته.. لقد أعاد هذا القانون الحقيقة الى مكانها، ووضع الأمور في نصابها: كلنا شعب فلسطيني واحد، على ارض فلسطين الواحدة والموحدة، ولذا فنضالنا واحد وإن اختلفت اساليبنا بسبب وضعياتنا المختلفة، لأننا مستهدفون جميعا.. لم يُذَكِّرْنَا القانونُ اننا شعب فلسطيني واحد، فهذا بدهي بالنسبة لنا، لكنه ذَكَّرَ إسرائيل بكذب دعوها وزيفها أننا جزء مختلف ومتمايز عن شعبنا الفلسطيني.. بناء على ما ذكرتُ، أعتقد أنه أصبح فرضا على كل مكونات مجتمعنا الفلسطيني في الداخل والخارج التحرر الكامل من الاعتبارات الضيقة مهما كان نوعها، ووضع الخلافات جانبا، ورص الصفوف من وراء رؤية شاملة تمثل الحد الأقصى من التوافق الديني والوطني والقومي (مشروع وطني)، يكون المنطلق الوحيد لحراكنا الجمعي، والمحرك الأساس لتحركنا الشامل في المرحلة المقبلة.. قضيتنا بين التقليد والتجديد ثانيها، الدعوة الى الانتقال من الأسلوب التقليدي في التعامل مع الازمات إلى الأسلوب غير التقليدي، او ما يمكن تسميته ب – (التفكير خارج الصندوق)، وهي مسألة ستظل خاضعة للكثير من الاعتبارات الداخلية والخارجية، والموازنة بين المصالح والمفاسد، وبين الأوليات المختلفة تقديما وتأخيرا.. يسعى المجتمع العربي الفلسطيني في الداخل منذ امد بعيد للنظر المعمق فيما يجب عمله من أجل بلورة استراتيجيات نضال ترقى إلى مستوى التحديات على المستويين النظري والعملي – الميداني.. من نتائج مرحلة النشاطوية الفكرية والتنظيرية والتي هي أساس الخطط العملية – الميدانية، ظهور الكثير من الدراسات ذات الوزن النوعي ك – (التصور المستقبلي للعرب الفلسطينيين في إسرائيل)، و – (دستور متساوي للجميع) و – (وثيقة حيفا)، وغيرها.. ما زالت المحاولات مستمرة، وقد جاء قانون القومية ليشكل محفزا أكد الحاجة مجددا وبشكل أكثر إلحاحا الى التئام النخبة من اهل الاختصاص لوضع تصور جديد لواقعنا العربي الفلسطيني في الداخل على ضوء هذا التطور غير المسبوق الذي يُشَكِّلُ قفزة نوعية في عدائه للفلسطينيين وطنا وشعبا ومقدسات وحقوقا وطنية غير قابلة للتصرف، وذلك من خلال شطبه فعليا ورسميا فلسطين كوطن، والفلسطينيين كشعب، والرواية الفلسطينية كراية تلتف من حولها الأجيال مستميتةً في ان تبلغ بها غايتها في دحر الاحتلال وإنجاز الاستقلال. بلغ الراعون لقانون القومية درجة من الصفاقة والوقاحة أن جعلوا الحق في فلسطين من البحر إلى النهر حصريا في اليهود دون غيرهم، مما يُعتبر انقلابا ليس فقط على الحق التاريخي والديني والحضاري للشعب الفلسطيني في كل أماكن تواجده على أرضه وفي وطنه، إلا انه ينقلب أيضا على كل مفردات الشرعية الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية، ابتداء من القرار (181) و (194) و(242) و(338)، مرروا بعشرات القرارات، ونهاية بقرار (2334)، والذي اتخذه مجلس الامن الدولي نهاية العام 2016، والذي كرر مطالبة إسرائيل بالوقف الفوري والكامل لجميع الأنشطة الاستيطانية في الأرض الفلسطينيةالمحتلة بما فيها القدس الشرقية، واعتبارها غير مشروعة وغير قانونية، إضافة إلى إعلان القانون رسميا وفاة عملية المفاوضات الفلسطينية – الإسرائيلية التي انطلقت منذ العام 1993 (أوسلو)، والتي تعثرت عبر مسيرتها الطويلة بسبب النية الإسرائيلية المبيتة والسافرة استغلالها غطاءً لتمرير خططها الاستعمارية في بسط سيطرتها على كل فلسطين التاريخية، الأمر الذي كشف عنه قانون القومية بشكل واضح لا يقبل التأويل. كما جاء قانون القومية ليؤكد الحاجة إلى الالتئام من جديد لوضع تصور شامل وجامع لمواجهة الموقف الجديد وغير المسبوق، فإنه جاء أيضا ليؤكد الحاجة الى إجراء نقاش مجتمعي واسع تشترك فيه كل فئات المجتمع، أتمنى ان ينتهي بالاتفاق على البرامج العملية للوقوف بقوة وعنفوان في وجه الاعصار العنصري القادم تنفيذا لقانون القومية الفاشي. عودة الى المربع الأول ثالثها، قانون القومية يعيدنا إلى المربع الأول، والسؤال الأخطر وهو: ما هي مشكلتنا مع إسرائيل؟ اهي مشكلة "مساواة وسلام" وحقوق مدنية وسياسية، ام ان المسألة أعمق من ذلك بكثير.. ما هو المرض وما هو العَرَض؟ ما هو الأصل وما هو الفرع؟ ما هو الجوهر وما هو المظهر؟ ما هو جذر المسألة وما هي فسيلتها؟ تعودنا كشعب فلسطيني يعيش على أرض وطنه في دولة إسرائيل، ان نتعامل أكثر من أي شيء آخر مع (أعراض) مرض الأيديولوجية الصهيونية – اليهودية التي فَرَّخَتْ سياسة التمييز العنصري والقهر القومي التي تمارسها الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة ضدنا منذ قيام الدولة وحتى الآن. لم نحاول – ولو بالتوازي مع التعامل مع العَرَض – التركيز بشكل أكثر عمقا وشمولية على المرض وفضح مدى خبثه وخطره، وأنه أصل المشكلة وأُسُّ الأزمة، وبدون اجتثاثه واستئصاله، لن يكون هنالك امل في شفاء (جسد) التعايش السلمي والنِّدِّيِّ بيننا كشعب فلسطيني أصلاني ما زال يعيش على أرض وطنه، وبين مجموعات المهاجرين من اليهود الذين قدموا الى فلسطين منذ ما يزيد على المئة عام بقليل، بدعم من دول الاستكبار العالمي، لبناء (وطنهم القومي!!)على حساب الشعب الفلسطيني الذي عاش في وطنه منذ كانت فلسطين وحتى اليوم، تنفيذا لأجندات استعمارية غربية كشفت عن تفاصيلها الكثير من الوثائق والمشروعات السياسية والاتفاقات التي وقعتها وأشرفت على تنفيذها دول الاستعمار الكبرى في حينه بريطانيا وفرنسا وغيرها، قبل ان ترث الولاياتالمتحدةالأمريكية مكانها ودورها معا.. الملاحظ أنه وإلى ما قبل مرحلة (التسويات السياسية) ابتداء باتفاق السلام المصري – الإسرائيلي (1979)، مرورا بالاتفاق الفلسطيني – الإسرائيلي (أوسلو 1993)، وانتهاء باتفاق السلام الأردني الإسرائيلي (1994)، كانت فلسطين بالنسبة للشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية أرض وقف مقدسة، لا مكان للتنازل عن شبر واحد منها مهما طال امد الصراع وعَظُمَتْ تضحياته. لم يؤثر في هذه الرؤية اتفاقات وقعتها دول عربية مع إسرائيل في العام 1949 (اتفاقات رودس)، كما لم تؤثر فيها هزائم العرب المتلاحقة 1956، 1967، ونصف النصر في حرب رمضان 1973، وما تلاها من انهيارِ الصف العربي وتَمَزُّقِ ما تبقى من وحدته، خصوصا بعد زيارة السادات لإسرائيل. كما لم تؤثر في هذه الرؤية الراسخة كل التراجعات العربية التي أعقبت مرحلة (التحرير الكامل) للأرض المحتلة، والتي ظهرت تحت عناوين (إزالة آثار العدوان) ابتداء، نزولا إلى (خُذْ وطالب)، وانحدارا إلى (القبول بما يُقَدَّم)، ثم انحطاطا إلى (صفقة القرن) التي يشرف على دحرجتها الثلاثي الصهيوني – اليهودي كوشنر- جرينبلاط – فريدمان، برعاية مخلصة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ودعم من عدد لا بأس به من الزعماء العرب وبالذات في الخليج العربي ومصر.. الأصل في المسألة هو وجود روايتين، واحدة فلسطينية والثانية صهيونية يهودية.. هاتان الروايتان متناقضتان في أكثر تفاصيلهما، بل ومتعارضتان تماما.. فلسطين في نظر الفلسطينيين وطن من البحر الى النهر، وكل ذرة فيها مقدسة، وهي بالنسبة للصهيونية – اليهودية (أرض إسرائيل) من بحرها إلى نهرها، ولا يجوز التفريط في شبر منها (أفْ شاعَل، كما في اللغة العبرية).. جاءت القرارات الدولية ابتداء من قرار التقسيم (181)، لتضع الجميع امام واقع جديد، وخصوصا الطرف الأضعف وهو الفلسطيني – العربي الذي خسر حروبه كلها مع (المتسلل!!) الصهيوني الجديد.. تطورت تداعيات هذا الواقع الجديد الذي نشا عقب النكبة الفلسطينية إلى ان تحول إلى مبادرات سلام، فاتفاقات سلام مضت كلها ما عدا واحدة وهي المتصلة بفلسطين.. لم يكن هذا غريبا، فقد دفعت الصهيونية منذ البداية وبكل قوة، وتحت غطاء كثيف من ضباب مفاوضات السلام العبثية، إلى ما كشف قانون القومية النقاب عنه صراحة، وهو سعي الحكومات الإسرائيلية وخصوصا الحالية برئاسة نتنياهو إلى إقامة (دولة إسرائيل) على كل (أرض إسرائيل الكبرى)، حيث الحق في تقرير المصير فيها حصري لليهود، اما غيرهم فرعايا يتمتعون بقسط من الحقوق الفردية تبقيهم على قيد الحياة، دون الاعتراف بحقهم الأصيل في الوطن وعليه، وتمارس ضدهم كل أنواع التمييز والقهر، مستغلة في سبيل تحقيق هدفها الدعم الأمريكي الكامل، والصمت الدولي وخصوصا الأوروبي إلا من بعض بيانات (الاستنكار!!) او (إبداء القلق!!)، وانهيار المنظومة العربية ودخولها مرحلة العمالة الصريحة، والتساوق الفاضح مع السياسات الإسرائيلية.. المشكلة بالنسبة لنا – إذا – ليست مشكلة (حقوقية مطلبية) فقط، وإنما مشكلة (وجودية)، ومشكلة (شرعية وجود) أيضا في أرض وطننا وعليه، وهما بالتحديد ما جاء قانون القومية لينفيهما عنا، ويثبتهما لقوم آخرين، ما كان لهم وجود في هذا الوطن لآلاف السنين.. هذا الوضع الذي أصبح رسميا من خلال قانون القومية بعد ان كان واقعا معاشا، هو ما يجب التركيز عليه وفضحه قدر المستطاع امام العالم، والتأكيد على ضرورة اجتثاثه من جذوره لأنه يشكل المستنقع الذي تنبعث منه أسراب بعوض العنصرية والتمييز والقهر، من غير إهمال للجانب المطلبي الذي هو حق مدني قانوني وشرعي لجماهيرنا، يجب على إسرائيل تقديمه دون مماطلة او تحايل.. من نحن؟؟؟ رابعها، من نحن؟ لماذا لم نستقر بعد على تعريف جامع وموحد لمجتمعنا (شعبنا) العربي الفلسطيني في إسرائيل؟ لماذا ما زالت تعريفاتنا مبعثرة لا تستقر على حال؟ بداية يجب ان نفخر بحقيقة قد تغيب عن البعض، وان لم تغب، لا يتم التركيز عليها بما يتناسب مع أهميتها وخطورتها.. بالرغم من العدد الكبير من المشاكل والأزمات الداخلية التي يعاني منها مجتمعنا العربي الفلسطيني لأسباب داخلية وخارجية ليس هذا مكان التفصيل فيها، وبالرغم مرور سبعين عاما على قيام إسرائيل، انفردت فيها تماما بمجتمعنا الفلسطيني الذي يعيش على ارض وطنه وتحت سلطتها المفروضة والتي لم يكن له خيار في قبولها او رفضها، لم تستطع إجمالا ان (تُطَوِّعَه) للتساوق مع هويتها الصهيونية – الإسرائيلية، او أن (تُدَجِّنَهُ) لخدمة أهدافها واغراضها واجنداتها التي تقف على النقيض الكامل لأشواقنا الدينية والوطنية والقومية.. هذا إنجاز كبير يجب إلا نستخف به أو نقلل من أهميته، فهو أكبر دليل على فشل الصهيونية في تحقيق أهدافها الاستراتيجية وإن هي نجحت في تحقيق أهدافها التكتيكية.. احتلال الأرض والسيطرة عليها بالحديد والنار، وطرد اهلها منها، وإحلال قوم آخرين مكانهم، وفرض قواعد اللعبة بسبب التفوق العسكري والدعم الدولي، أو تشديد قبضة السيطرة والتحكم على الحيز العام والخاص للمجتمع العربي، هو (إنجاز!!) تكتيكي يمكن ان يتغير فجأة بتغير موازين القوى، وهذا ما اثبتته تجارب النضالات الوطنية في كل البلاد التي تعرضت إلى احتلالات غاشمة كما وقع في فلسطين، والتي انتهت كلها بزوال الاحتلال واستقلال الشعوب.. فلسطين ليست استثناء، وهذا ما لا يريد قادة الصهيونية ان يفهموه!! (الإنجاز الاستراتيجي) لأية دولة في العالم هو أن تتحول إلى جزء مقبول في محيطها، وأن تنجح في تحويل مواطنيها إلى جزء أصيل من تركيبتها ونسيجها، فلا يكون مكانٌ في قاموسها ولا في سياساتها لتمييزٍ ولا عنصريةٍ ولا قهر.. من الواضح ان إسرائيل فشلت فشلا ذريعا في تحقيق إنجاز استراتيجي من هذا النوع لسبب بسيط، ان الصهيونية ليست إلا شكلا من اشكال العنصرية، وان ميلاد إسرائيل القيصري والأسس الأيدولوجية التي قامت عليها، لا يمكن إلا أن تضعها في مواجهة الشعب الفلسطيني والأمة العربية والإسلامية وأحرار العالم، ولذلك تحتاج دائما إلى ما تعتقد انه كاف لحماية إنجازاتها التكتيكية بعد ان أخفقت في تحقيق أي إنجاز استراتيجي، فكان قانون القومية مخلوقها المسخ الذي لجأت إليه متوهمةً انها تستطيع من خلاله ان تحمي وتشرعن سرقتها لوطن وشعب ورواية.. قد يسألني سائل صهيوني – يهودي من الذين يدعمون قانون القومية: كيف لإسرائيل ان تحقق إنجازا استراتيجيا على النحو الذي وصفْتَ؟ الجواب على هذا السؤال بسيط: عندما تقوم دولة فلسطين على كامل التراب الوطني الفلسطيني المحتل عام 1967 وعاصمتها القدس، وعندما يعود ملايين اللاجئين الفلسطينيين إلى وطنهم داخل الخط الأخضر، وعندما تلغي إسرائيل كل قوانينها العنصرية المميزة على أساس الدين اليهودي والصهيونية، وتصبح دولة مدنية لجميع مواطنيها، وتكون رموزها متفقة مع هذه الروح الجديدة بعيدا عن النزعة الصهيونية – اليهودية، يمكن ان نقول بعدها ان إسرائيل وضعت اقدامها على بداية الطريق الصحيح!! فهل هي قادرة على ان تكون على مستوى هذا التحدي؟! الجواب: لا بالطبع!! لذلك، ستبقى إسرائيل وقيادتها الصهيونية وحدها تتحمل المسؤولية الكاملة عما سيترتب على عنادها وصدامها مع قوانين العدالة الطبيعية، من كوارث لن تقفز على أحد أبدا!! المجتمع العربي كَكَمِّ نوعي قد لا يكون وجودنا المجرد فقط كمجتمع عربي فلسطيني في إسرائيل هو ما يشكل خطرا استراتيجيا عليها كما عبر عن ذلك (نتنياهو) في إحدى جلسات (مؤتمر هرتسليا) قبل سنوات، فالوجود الكَمِّي دون أحلام دينية – قومية – وطنية، ودون رؤية سياسية ناضجة، ودون عقيدة وطنية راسخة، وجودٌ سهلُ الانقياد.. وصدق الشاعر أبو القاسم الشابِّي إذ يقول في وصف هذه الحالة: إذَا مَا طَمَحْتُ إلِى غَايَةٍ رَكِبْتُ الْمُنَى وَنَسِيتُ الحَذَر وَلَمْ أَتَجَنَّبْ وُعُورَ الشِّعَابِ وَلا كُبَّةَ اللَّهَبِ المُسْتَعِر وَمَنْ لا يُحِبّ صُعُودَ الجِبَالِ يَعِشْ أَبَدَ الدَّهْرِ بَيْنَ الحُفَر "أُبَارِكُ في النَّاسِ أَهْلَ الطُّمُوحِ وَمَنْ يَسْتَلِذُّ رُكُوبَ الخَطَر وأَلْعَنُ مَنْ لا يُمَاشِي الزَّمَانَ وَيَقْنَعُ بِالعَيْشِ عَيْشِ الحَجَر هُوَ الكَوْنُ حَيٌّ ، يُحِبُّ الحَيَاةَ وَيَحْتَقِرُ الْمَيْتَ مَهْمَا كَبُر فَلا الأُفْقُ يَحْضُنُ مَيْتَ الطُّيُورِ وَلا النَّحْلُ يَلْثِمُ مَيْتَ الزَّهَر وَلَوْلا أُمُومَةُ قَلْبِي الرَّؤُوم لَمَا ضَمَّتِ المَيْتَ تِلْكَ الحُفَر فَوَيْلٌ لِمَنْ لَمْ تَشُقْهُ الحَيَاةُ مِنْ لَعْنَةِ العَدَمِ المُنْتَصِر!" وَأَعْلَنَ في الْكَوْنِ أَنَّ الطُّمُوحَ لَهِيبُ الْحَيَاةِ وَرُوحُ الظَّفَر إِذَا طَمَحَتْ لِلْحَيَاةِ النُّفُوسُ فَلا بُدَّ أَنْ يَسْتَجِيبَ الْقَدَرْ * الرئيس السابق للحركة الإسلامية في الداخل الفلسطيني