ضمن هذا الشهر الكريم، نعرض عليكم متابعي جريدة "العمق" سلسلة جديدة مع الكاتب خالد لشهب يروي فيها تجربته من "اعتناق" مذهب بن عبد الوهاب إلى مخاض الخروج إلى رحابة الإسلام، بما يبشر به من قيم الجمال والتسامح والرحمة ... السلسلة هي في الأصل مشروع كتاب عنونه مؤلفه ب «من الوهابية إلى الإسلام»، حيث يُحاول من خلال عرض تجربته بأسلوب يزاوج بين السرد والاسترجاع والنقد. جريدة "العمق" ستعرض طيلة هذا الشهر الفضيل، الكتاب منجما في حلقات، يحاول من خلالها الكاتب نثر الإشارات التي قد تكون دافعا ووازعا لكثير من الشباب للخروج من ظلمة الوهابية إلى رحابة الإسلام عملا وظنا. الحلقة24: ثقافة التحريم في الفكر الوهابي لا يمكن الحديث عن الوهابية في عللها ومزالقها دون التطرق لحقيقة ارتباطها بعقلية الغلو في التحريم؛ فالتاريخ المعاصر يسجل أنه في أوج اشتعال مفاهيم الحضارة والتمدن والحداثة كان العقل الوهابي يحاول الموازنة بين تركة ابن عبد الوهاب التي لا يمكن التخلي عنها مطلقا، وبين موجة التمدن التي لا تصد ولا ترد. وبما أن العقل الوهابي يزدري الفقه ومقاصد الدين ويتمسك بعقلية التفويض وتقديس آراء الرجال، فإنه وجد صعوبة كبيرة في التأقلم جعلته يحرم ثلثي ما تنتجه الحضارة البشرية تحت مسميات عقدية أو غلو في قواعد فقهية؛ فكان هذا وبالا على الأمة الإسلامية حيث فهم العوام إلى اليوم أن الإسلام الحقيقي هو الذي يغلو في التحريم، بينما الحقيقة أن جهد الفقهاء من سنة وشيعة وإباضية اجتهدوا لقرون من أجل الإبقاء على توسيع دائرة المباح في الإسلام. ما أزال أتذكر وأنا غلام يافع كيف كانت الوهابية في بداية تسعينيات القرن العشرين تمنع أكثر مما تبيح، والتاريخ يسجل وكتب الوهابية وغير الوهابية حافل بهذه التحريمات التي لو سمعت بعضها وقرأت لاختلط فيك شعور بالضحك والبكاء من شدة غباء هؤلاء؛ وحتى وأن الأمر لا ينسب غالبا إلى علمائهم المحققين فإن عقلية التحريم التي طبعت المذهب هي من جعلت العوام والهوام يشعرون هذا الشعور لأمور ورثوها. والناظر في فتاوى ابن باز وابن عثيمين وآل الشيخ وغيرهم كثير يلفي أنهم كانوا يردون على قوم أكثر منهم غلوا في التحريم؛ وهذا مصداق ما قلت آنفا؛ فابن عثيمين مثلا يقول: ..وإن كان يرى تحريم استعمال مكبر الصوت بكل حالٍ فلا وجه لرأيه؛ لأن التحريم لا يثبت إلا بدليل شرعي، والأصل في غير العبادات الحل حتى يقوم دليل التحريم لقوله تعالى: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأرْضِ جَمِيعاً.. فتحريم ما أحل الله كتحليل ما حرم الله إن لم يكن أعظم، لما يحصل في التحريم من الإشقاق على الناس والتضييق عليهم، والرب عز وجل يريد بعباده اليسر ولا يريد بهم العسر، وهو سبحانه يحب أن تؤتى رخصه التي فيها إسقاط لما أصله واجب، أو تحليل لما أصله محرم لما في ذلك من التخفيف والتيسير، فكما أن على المسلم أن يحترز في تحليل الحرام فعليه أن يحترز في تحريم الحلال أولى. لا يتعلق الأمر بمكبر الصوت فقط فقد امتد هذا إلى تبديع الساعة والتلغراف والصنابير عند الوضوء واستعمال المراكب الفضائية والسيارات وكل ماجادت به المدنية بدعوى التشبه بالكفار والبدعة، حتى إن كثيرا من العوام يسخرون من السلفيين ويتداولون عنهم النكت والطرائف المضحكة بدعوى أن هذا وهذا لم يكن في عهد السلف. ورغم جهود علماء الوهابية في محاولة استدراك الأمر ووصف المبدعة بأقدح الأوصاف فإن العوام تشربوا هذا الأمر ووقعت الكارثة في مجتمع يؤمن فقط بالدليل الذي يقصد به النص دون استعمال شروط فهمه على عادة الخوارج في التعامل مع النصوص. ومن الطرائف التي حصلت معي هي عندما كنا يوما نسير في صف طويل إلى مسجد بعيد قريب لصلاة التراويح، وكنا نظهر من بعيد ونحن وسط الظلام كأننا قطاع طرق. فقال أحد الإخوة لصديق معنا تصور أننا نسير الآن للجهاد، فقال له صاحبه وهو يحاوره: لا تقل تصور ولكن قل هب أننا أو قال تخيل أننا؛ فالتصوير حرام. وأذكر أيضا أن أحد الشباب حديث العهد بالدين خرج من حياة المجون وسمع أن الصور حرام فاختلينا في مكان وأحرق كل ذكرياته الجميلة من طفولة ومراهقة لما يزيد عن أرعين صورة. وقد كان المعتمد في هذا فتاوى ابن باز والفوزان بل تقريبا كان هذا التحريم شبه مجمع عليه لفهم سطحي لأحاديث الصور. يقول الفوزان: ..أما عند السنة والأدلة فالتصوير بعمومه حرام وملعون المصور وهو أشد الناس عذابا يوم القيامة فما الذي يخرج الجوال من هذا ، الرسول حرم التصوير مطلقا بأي وسيلة جوال ، كامرة ، باليد ، بالرسم حرمه تحريما مطلقا ، فمن يستثني على الرسول صلى الله عليه وسلم ويستدرك على الرسول إلا أن العلماء المحققين استثنوا حالة الضرورة إذا احتاح الإنسان للتصوير للضرورة فيباح هذا من أجل الضرورة لقوله تعالى (وقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إلَيْهِ ) أما التصوير للهواية والتصوير للفن التصوير بالكامرة أو باليد أو بأي شيء فهو حرام ولا يجوز إلا للضرورة فقط بقدر الضرورة رخصة ، رخصة من أجل الضرورة فقط . نعم . ولا يتعلق الأمر فقط بفهم سطحي للنصوص بل إن عقلية التحريم في الوهابية تمتد في المجتمع ككل، ومردها إلى قواعد بعينها هي المرجع، وأشهر هذه القواعد قاعدة باب سد الذرائع التي هي أصل في الفقه الإسلامي والمالكي على الخصوص، ولكن الوهابية غالت فيها ومددتها حتى جعلت كل وسيلة احتمل أن تؤدي إلى حرام فهي حرام، وبه حرموا قيادة المرأة للسيارة باحتمال لقائها بعشيقها أو فتنة السائق، وحرموا تحديث الرجل للمرأة لاحتمال الوقع بينهما، وحرموا التلفاز لاحتمال أن تفتن المسلم عن دينه، وعلى هذا حرموا وغالوا في التحريم حتى أصبح الإسلام بجهلهم مرادفا للتحريم وضيقوا دائرة المباح بنص صحيح غير صريح أو صريح غير صحيح، وجنوا على الفن والثقافة ولم يعد الإسلام ينتج غير الكوارث والعجز. يقول مسفر القحطاني في مقال منشور على مجلة الفيصل: العددان 497-498، بعنوان؛ الفن والوجدان والفقه..وسؤال القطيعة: .. يظهر للباحث في الفقه أن الفنون السمعية اختزلت لدى كثير من الفقهاء في أحكام المعازف، والفنون البصرية اختزلت في تحريم التصاوير، وفنون المعمار اختزلت في تحريم القباب على القبور، وهذه النماذج أعرضها كأمثلة بيد أنها تدل وبشكل كبير على التعاطي المبالغ فيه في سد الذرائع وبتغليب التحريم في ما أصبه الحل، والتكلف في التحوط في أمر تتطلع له رغبات الناس. إن ناظرا في تراث المسلمين وقبله في مجتمع الصحابة يلفي الفرق شاسعا في كم الاختلاف والسعة التي ضيقت دائرة الحرام حتى ما أبقت منه غير الصريح الصحيح الذي لا خلاف فيه، ولكن ناظرا في مجتمع الوهابية وأفرادها يلفي الحرج الذي ما بعده حرج؛ حيث يتم تعميم ما يختص بالأفراد إلى عموم الناس فضيقوا على الناس حياتهم حتى أصبح الإنسان يحقق دينه وإيمانه في المجتمعات الكافرة حيث لا تتدخل الدولة في اختيارات الأفراد. فالتزمت في الدين ليس وليد اليوم، ولكنه شعور يلازم الأفراد في كل الديانات فلا يؤثر في المجتمع إلا حين تتبناه المؤسسات فتقع الكوارث حين تحاول السلطة تقييد المباحات بما يراه أفراد ليسوا بالضرورة على قياس عموم المجتمع. ونظرة بسيطة كما قلت في مجتمع الصحابة تظهرالفرق، بل إنه في تاريخ المسلمين عشرات الشواهد في الفن والجمال والقصة، بل إنه حتى من الناحية الجنسية ولباس النساء وحديثهن في الجنس مع الرجال، ومشاركة النساء في الحياة الاجتماعية؛ كان أمرا لا يشكل عندهم أي حرج، وبإمكان المرأة أن تتحدث عن قدراتها الجنسية في زمن الصحابة والتابعين وفي القرون التالية بدون أي حرج والشواهد الصحيحة الصريحة موجودة بكثرة رغم أنها ليست هي الأصل بطبيعة الحال؛ ولكن قصدي هاهنا هو أن المجتمع كان يتحرك من غير هذه الوصاية التي نلمسها اليوم في المجتمع السعودي الذي تحركه الطبيعة أكثر مما يحركه الشرع، وهذه أمور ناقشت بعضها في مقال بعوان: سيكولوجية النقاب. يقول ابن قتيبة وقد لخص كل شيء، وابن قتيبة هذا موصوف عند أهل السير والطبقات بالرجل التقة والفاضل . صاحب التصانيف الكبيرة والكثيرة والموسوعية والذي افتتن به فقهاء الحنابلة ورؤوسهم كثيرا وأفاضو فيه المدح العميم ، حتى قال عنه شيخ الوهابية ابن تيمية : يقال هو لأهل السنّة مثل الجاحظ للمعتزلة، فإنه خطيب السنّة كما أن الجاحظ خطيب المعتزلة . ابن قتيبة هذا وجدت له كلاما قيما في مقدمة كتابه عيون الأخبار والذي يبين فيه أن التزمت ليس ظاهرة حديثة ولكنها مرض قديم . يقول رحمه الله : "وسينتهي بك كتابنا هذا إلى باب المزاح والفكاهة وما روي عن الأشراف والأئمة فيهما، فإذا مر بك أيها المتزمت حديث تستخفه أو تستحسنه أو تعجب منه أو تضحك له فاعرف المذهب فيه وما أردنا به. واعلم أنك إن كنت مستغنيًا عنه بتنسكك فإن غيرك ممن يترخص فيما تشددت فيه محتاج إليه، وإن الكتاب لم يعمل لك دون غيرك فيُهيًّأ على ظاهر محبتك، ولو وقع فيه توقي المتزمتين لذهب شطر بهائه وشطر مائه ولأعرض عنه من أحببنا أن يقبل إليه معك. وإنما مثل هذا الكتاب مثل المائدة تختلف فيها مذاقات الطعوم لاختلاف شهوات الآكلين. "وإذا مر بك حديث فيه إفصاح بذكر عورة أو فرج أو وصف فاحشة فلا يحملنك الخشوع أو التخاشع على أن تصعر خدك وتعرض بوجهك، فإن أسماء الأعضاء لا تؤثم وإنما المآثم في شتم الأعراض وقول الزور والكذب وأكل لحوم الناس بالغيب… فتفهم الأمرين وافرق بين الجنسين.