لقد انتشرت مؤخرًا حملة على مواقع التواصل الاجتماعي تحت شعار: "مقاطعون" وهي حملة قوية انطلقت من داخل أسوار الموقع الأزرق. إن غاية هذه الحملة حسب النشطاء الاجتماعيين هي تبليغ صوتهم إلى الحكومة المغربية على المستوى الأول، وإلى المنابر الإعلامية العربية والعالمية على مستوى أكبر. الصوت الذي يقول بأن المواطن المغربي اليوم يعيش أزمة خانقة: أزمة ارتفاع مهول في أسعار المواد الضرورية والأساسية للحياة اليومية، مع ما يصاحبه من انخفاض كبير في القدرة الشرائية للمواطن، أي ضعف الرواتب من جهة أو كثرة البطالة من جهة أخرى. لقد ظهرت حملة مقاطعون باعتبارها حلًا بديلًا لحل الاحتجاج السلمي الذي كان يلجأ إليه الشارع المغربي. طريقة الاحتجاج السلمي والتجمهر أمام البرلمان للتعبير بطريقة سلمية عن الآراء كانت ولازالت تقابل بتنزيل أمني مشدد وفي العديد من الأحيان تنتهي إلى تعنيف المواطنين بمن فيهم النساء. حملة المقاطعة شملت ثلاثة منتوجات: منتوج واحد من صنف الحليب، والثاني من صنف المياه المعدنية، والثالث من صنف محطات الوقود. وقد تم اختيار هاته الشركات الثلاث بعينها دون غيرها لأنها تتحكم في حصة كبيرة من الاقتصاد المغربي، إضافة إلى أنها تستحوذ وتسيطر على السوق المغربية برمتها. هنا، وفي الحالة العادية، وبما أن مسألة المقاطعة قد بدأت تؤتي أكلها وأعطت نتائج حقيقية على أرض الواقع، بل وتسببت بخسائر جسيمة للشركات المعنية، كان الأولى بالحكومة أن تتحدث عن الأمر في البرلمان المغربي، وأن تحاول إيجاد حلول عملية للموضوع. سواء عن طريق التفاوض أو عن طريق تقديم اعتذار رسمي عن الأسعار التي تعصف بجيب المواطن المغربي الضعيف. لكن بدل ذلك، طلع علينا وزير الاقتصاد محمد بوسعيد ليصف المنخرطين في حملة المقاطعة على أنهم "مداويخ" وهي خطوة واضحة في دعم منه لرجال الأعمال وملاك الشركات ضد الشعب. استخدام وزير الاقتصاد للإهانة في حق المغاربة عن طريق وصفهم بالمداويخ ليس بالشيء الجديد، لأن الحكومة المغربية احترفت تقديم تصريحات أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها غير مسؤولة. وهنا أتذكر يوما ما أن وزير التعليم العالي والبحث العلمي وتكوين الأطر آنذاك، لحسن الداودي، قد أطل علينا بتصريح على خلفية إعطاء انطلاقة الباكالوريا المهنية الجديدة واصفا فيه خريجي التخصصات الأدبية بالعالة على المجتمع. في حوار مصور له مع أحد المواقع الصحفية صرح عبد السلام الصديقي وزير التشغيل والشؤون الاجتماعية السابق بأنه يتقاضى 55 ألف درهم مغربية، وأردف قائلا للصحفي المحاور: أنا وزير، هل تتوقع مني أن أنتعل حذاء رثا كالتي تلبسه أنت؟ (جميع المقاطع المذكورة في المقال يمكن الرجوع إلى موقع اليوتيوب من أجل التأكد من وجودها) وفي ارتباط بموضوع المقاطعة مجددا، صرح محمد يتيم وزير للشغل والإدماج المهني لأحد المواقع الصحفية حينما سأله أحد الصحفيين عن موضوع المقاطعة بأنه غير معني بالموضوع باعتباره وزيرا، ولو كان مواطن "دزنقة" لما اهتم الصحفي برأيه ربما لا يدري السيد الوزير أهمية المواطنة التي استصغرها بتصريحه ذاك، لدرجة أن علما من أعلام الفلسفة السياسية الحديثة، الفيلسوف جان جاك روسو، كان يمضي كتبه باعتباره "المواطن". ولسوء الصدفة من شخص حاصل على الإجازة في الفلسفة وعلى دبلوم الدراسات العليا في علوم التربية، كما عمل مدرس للفلسفة ولعلوم التربية لعدة سنوات. هذا دون أن أنسى الإشارة إلى أن وزير الفلاحة أخنوش والعديد من المسؤولين الآخرين، كلما تم مواجهتهم بالسؤال حول المقاطعة إلا وتناولوا للأمر باعتباره صادرا عن "المواقع الافتراضية" ولم يتجرأ أي مسؤول على استخدام "مواقع التواصل الاجتماعي" لما تحمل من دلالة قوية، عكس التعبير الأول الذي يحمل تبخيسا وتسفيها للحملة الشعبية. لقد قام الفرنسي ميشيل فوكو بتخصيص دراسة مهمة لمفهوم الخطاب في كتابه الشهير "نظام الخطاب" وقد قام في تحليله بذكر أهمية استخدام الخطاب. وكيف أنه آلية لإنتاج المعرفة والحقيقة، أي أنه عن طريق الخطاب تستطيع إقناع الناس بقبول الآراء أو رفضها. وأنه عن طريق تحليل خطاب شخص ما تستطيع استخلاص معلومات حول جنسه وتوجهاته وآراءه، بل والطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها وحتى نوع العلاقة التي تجمع المتحدث مع الناس الذين يتوجه إليهم بخطابه. من المحتمل جدا أن المسؤولين وصناع القرار في الدول المتقدمة انتبهوا إلى أهمية الخطاب في السياسية المعاصرة، بل وجعلوا لأنفسهم مدربين وأساتذة متخصصين لأجل تلقينهم الطرق الصحيحة لاستخدام الخطاب من أجل التواصل مع مواطنيهم، بل والطريقة السليمة لكي تكون لغة الجسد الخاصة بهم منسجمة مع الكلام الذين ينطقون به. تشكل الديمقراطية جوهر السياسة الحديثة والمعاصرة، وبمنطق الديمقراطية يجب الإنصات إلى أصوات المواطنين الذين استطاعوا بفضل اتحادهم أن يزعزعوا ذلك البعبع المخيف الذي المدعو بالحكومة. اليوم، أثبتت الحملة الشعبية أنها صادرة عن وعي كبير من لدن المواطنين. الرسالة واضحة اليوم: إذا تجرأت على الرفع من أثمنة المنتوجات التي يستهلكها المغاربة، سيتم حذفها من القائمة الاستهلاكية اليومية. المقاطعة اختيار شخصي، وهو فعل صادر عن وعي بضرورة العمل بالمثل القائل أن إشعال شمعة أفضل من الجلوس ولعن الظلام. ولم يعد المجال اليوم متاحا للمزيد من التصريحات اللامسؤولة من طرف من يفترض بهم أنهم مسؤولون حكوميون. المقاطعة هي شمعتنا لليوم والغد. *باحث في الفلسفة السياسية (طالب باحث بالسنة الثانية من سلك الماستر الفلسفة والفكر المعاصر بالرباط)