ضمن هذا الشهر الكريم، نعرض عليكم متابعي جريدة "العمق" سلسلة جديدة مع الكاتب خالد لشهب. يروي فيها تجربته من "اعتناق" مذهب بن عبد الوهاب إلى مخاض الخروج إلى رحابة الإسلام، بما يبشر به من قيم الجمال والتسامح والرحمة ... السلسلة هي في الأصل مشروع كتاب عنونه مؤلفه ب «من الوهابية إلى الإسلام»، حيث يُحاول من خلال عرض تجربته بأسلوب يزاوج بين السرد والاسترجاع والنقد. جريدة "العمق" ستعرض طيلة هذا الشهر الفضيل، الكتاب منجما في حلقات، يحاول من خلالها الكاتب نثر الإشارات التي قد تكون دافعا ووازعا لكثير من الشباب للخروج من ظلمة الوهابية إلى رحابة الإسلام عملا وظنا. الحلقة 15: في نقض إدعاء مذهب السلف إن أكبر مشكل يواجهه المقبل على التدين هو مفهوم السلف والسلفية. وأكثر شيء تتبجح به السلفية اليوم هي ادعاؤهم أنهم على منهج السلف، وكلما تحدث الوهابي قال: "نحن على منهج السلف، فهل أنتم ضد السلف، هل أنتم ضد الصحابة والتابعين وتابعيهم الذين شهد النبي صلى الله عليه وسلم بالخيرية؟". وهذه المقولات الدوغمائية والطوباوية هي ما جعلتني وجعلت وتجعل الشباب اليوم يسلم بمنهجهم دون القدرة على إعمال عقله، ودون طرح سؤال بسيط قريب يتعلق بمن هم السلف وما هو منهجهم؟ ولماذا غالبية العلماء في تاريخ المسلمين لم يكونوا على ما يسمى منهج السلف؟ هل لأنهم رأوا فيه ما رأوا أم لأنهم أصلا لا يعترفون بشيء اسمه منهج السلف؟ ثم، هل الوهابية حقا على مذهب السلف؟ قلت: إنه ليس من اليسير دفع النفس للبحث في هذه الأمور، لأن المرء عندما يدخل في السلفية يحس أنه مكبل بمقولات مفروض عليه فقط أن يبررها بكلام ليس كلامه، فترى أن دافع التحقيق والبحث والتقصي في نفوس السلفيين ضعيف، ولهذا يصبح من السهل جدا تمرير مقولات بسيطة إلى نفوسهم باستدلالات سطحية بسيطة من الممكن أن يتخلص المرء منها حال اشتغال يسير بأصول الدين. وعلى هذا كانت السلفية الوهابية خصيمة للعقل، خصيمة للنظر، خصيمة لأصول الفقه، لا تتعدى الاشتغال بثنائيتي الحرام والحلال والمنع والإباحة. ولهذا السبب انتشرت السلفية في بلاد المسلمين لانتشار العامية والجهل وضعف حاسة التحقيق، فلا يكون من السهل على العامي أن يكون على أصول أهل السنة والجماعة فروعا وأصولا ولكن تغريه المقولات الوهابية لأنها سهلة وبسيطة لا تتطلب الكثير من الجهد والفهم. وبإمكان الجاهل جدا أن يتعامل مع نصوص الشرع ظاهرا دون الحاجة إلى النظر في أدوات الاستنباط التي قضى أسلافنا قرونا في استخراجها وتفصيلها حتى يكون الدين لمقاصده مجيبا على التحديات والنوازل والمصالح المرسلة. وحتى عندما يتعلق الأمر بعلماء الوهابية؛ فهم يسمون علماء فقط لأنهم يستطيعون أن يمتلئوا بأكبر قدر من النصوص لإعمالها في النوازل على ظاهرها، في ثنائية يجوز ولا يجوز. فالعالم عندهم هو الحافظ وليس العالم عندهم هو الفطن المستنبط على عادة الفقهاء من أهل المذاهب. فالوهابية لها خصومة خفية مع الفقه وعلوم الاستنباط ربما ورثوها هذه العادة جهلا من مذهب الإمام أحمد. ليس تنقيصا من الإمام أحمد ولا من سعة معرفته، فقد كان على عكس هؤلاء المتنطعين آية في الورع والأدب والتبات حتى يضرب به المثل في الزهد وعفة النفس، فأين هؤلاء المكفرون المتنطعون من مذهب الإمام. ولكن الذي يسجل هو أن أبا عبد الله شغله عمله بالخبر والرواية فلم يكتب في الفقه ولا في مسائله، بل لم تكن له آراء مجتمعة مصنفة يفهم منها منهجه في الاستنباط، فمما يذكر أنه كان من ورعه يمنع طلبته من التسجيل عنه مخافة أن يقول الحكم ثم يرجع عنه في ما يتقدم، فقد كان يعتمد الرواية بدلا عن وضع منهج في الاستنباط يقيمه على كل نازلة. بل إنه حتى في مفاهيمه واصطلاحاته في الأحكام لم تكن مضبوطة بالشكل الذي عليه أئمة الفقه، فهو رحمه الله يقول تارة أكره ومرة يقول يعجبني، ومرة أستقبحه ولا أحبه ولا أستحسنه… وهي ما جعلت الحنابلة من المتأخرين لا يفهمون مقصود الإمام وتخبط أغلبهم في الشذوذ والعلل بل تعاملوا مع النصوص بثنائية بغيضة. حتى أن السلفي اليوم من العوام لن يفهم كل تلك التفصيلات فاستبدلوها بالحرام والحلال لا غير أو بكلمات لا تفي بالغرض المنهج سدا للذرائع على زعمهم فغالوا في المنع غلوا عظيما. لقد قضيت سنوات من حياتي على مذهب الحنابلة، ولصغر سني لم أكن أدرك أني كنت فقط أدور في دائرة الحنابلة الذين هم الحلقة الأضعف في تاريخ علماء الأمة، وكنت أعتقد أن علماء الحنابلة هم أعلم أهل الأرض، وأنه لا أحد أعلم من ابن كثير وابن القيم وابن تيمية وابن عبد الوهاب وابن عثيمين وابن باز والشيخ الألباني… حتى إن الكتب المتداولة في بيتنا كان غالبها في الأصول مؤلفات الحنابلة وبعض من المصنفات في الحديث وشروحها مما يقرب المذهب مثل الإمام النووي وابن حجر وابن قدامة وهؤلاء من الأشاعرة، يأخذون عنهم الفروع لافتقارهم لمنهج في الفروع بينما يرمونهم بالبدعة والضلال في الأصول. والوهابية أكثر من أساء لمذهب الإمام فزادوه عللا، ترى ذلك في سطحية فتاويهم، فالإمام أحمد ولو أنه لم يكن صاحب منهج فقهي معلوم فإنه كان عالما بالفقه وعلى أساس هذا كان يرى، بينما يرى الوهابي اليوم جهلا منه بالفقه فيأتي بالشذوذ والكوارث المبكية المضحكة. وبالعودة إلى الحديث عن مذهب السلف، فقد كان أول ما أثير في ذهني بعد خروجي من ظاهر المذهب، هو كيف أمكن أن نختلف نحن المنتسبون للسلف مع العلم أن لنا نفس المنطلقات والمدخلات، وبدأت أطرح الأسئلة بعد الأسئلة، وأبحث في هذا المفهوم وماذا يقصد به. وبما أني كما أسلفت كنت تأثرت في سابق عهدي بفلسفة ديكارت فقد كنت أريد أن أرى في السلفية منهجا في الفهم بما يقتضيه مفهوم المنهح الذي يفترض فيه الانضباط لقواعد معينة تقينا من الزلل أو على الأقل تجعلنا نتوصل إلى النتائج نفسها. فأدركت بعد بحث طويل أن ما كان يسمى منهج السلف لا يصح أن يسمى منهجا، وإنما هو مجموع آراء وجب الأخذ بها عملا وظنا. فمنهج السلف في النهاية هو ما قاله الصحابي والتابعي وتابع التابعي رأيا وليسا تأصيلا. وكانت أول فكرة دحضت في باطني أني عندما أصبحت أقرأ القرآن بتدبر وليس للأجر فقط كما حال السلفيين اليوم الذين اكتفوا بالأثر وأهملوا القرآن، فكنت أجد أن القرآن الكريم كان يتحدث عن الصحابة كمجتمع مختلف فيه الصالح والطالح، وكان يظهر لي من خلال الخطاب القرآني لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يلومهم تارة ويثني عليهم تارة ويمدح أفعالهم وأقواهم تارة ويذم أفعالهم وأقوالهم تارة أخرى، وهذا يمكن أن يفهمه بسهولة أي قارئ للقرآن متدبر لا متبرك معطل فهمه ونظره. فأصبحت حينها أفهم أن ما يجيء من رأي الصحابي ليس ضرورة أن يكون بتلك القدسية التي كانت تصورها الوهابية، فقول الصحابي له فضل القرب من النبي وفضل صفاء سريرته في فهم الخطاب وهذه أمور أفهمها بمنهجي، لكن لا يجب أن يتم تحميل قول الصحابي أكثر مما يتحمل، وعلى هذا قس التابعين لهم بإحسان. إن الخيرية المقصودة في الخبر عن النبي يقصد بها صلاح السرائر والأعمال ولو من غير عموم، ولا يقصد بها ضرورة استقامة الرأي والنظر ورجاحة العقل، فليس كل صالح هو بالضرورة فقيه. يقول النبي صلى الله عليه وسلم مخاطبا أصحابه: نَضَّرَ اللَّهُ عَبْدًا سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا، رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ لَيْسَ بِفَقِيهٍ وَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ" وفصل ما بين العابد والعالم ظاهر كما في الحديث. فكان بهذا الاحتجاج بالانتساب لمذهب السلف باطلا من وجهين: أولهما: أن الصحابة والتابعين على فضلهم وعلو قدرهم عند الله وعند نبيه لم يكونوا كلهم عدول على الإطلاق كما يصور الوهابية وأهل الأثر، فهذه فقط علة في تعريف الصحابي عند أهل الحديث وليس مثلها ما ذهب إليه المحققون من أهل الأصول والرأي. فالمقصودون بالفضل هم ثلة من الأنصار والمهاجرين والذين شهدوا بدرا ووقفوا مع النبي صلة الله عليه وسلم في الشدائد وفي المواقع الحاسمة للدعوة، لكن هذا عقلا لا يشمل عموم من يوصفون عادة بالصحبة كما في الخبر عن النبي: فإنك لا تدري ماذا أحدثوا بعدك. وقوله في الحديث المتواتر: ويح عمار،تقتله الفئة الباغية، وغيره كثير جدا مما هو موجود بكثرة في كتب الأخبار ومجتمع النبي وما بعده. فتصور مجتمع الصحابة مجتمعا مثاليا لا يمكن أن تقبله أي نظرية اجتماعية نفسية، إلا أن يقصد بالصحابي العدل؛ فئة معلومة من الذين أثر عليهم الصلاح بلا تجريح وهم الغالب في ما نعلم. ولهذا فإطلاق لفظ السلف هو باطل فاسد. وحتى الوهابيون عندما لا يعجبهم قول الصحابي والتابعي ولا يوافق هوى في نفوسهم يردون رأيه مثل ما كانوا يردون الإسرائيليات والخرافات والشاذ من الآراء. فليس العيب في الصحابي الذي يرى ولا يرى في رأيه وجوب إتباع لعلمه أن مادون النبي يؤخذ من قوله ويرد، ولكن العيب في من اعتقد العصمة للصحابي، وقد علمنا أن مجتمع النبي كان فيه منافقون، وأصحاب حاجة والمبتغون للدنيا بدل الدين الكارهون للموت، الامزون النبي في الصدقات كما يصور القرآن، وهؤلاء مات النبي ولا يعلمهم إلا قليلا منهم فكيف يعتقد معتقد العدل لمجتمع هذا حاله. الوجه الثاني: هو أن ظهور المذاهب الفقهية والفرق سببه أساسا انتفاء الوجه الأول وعدم صحته، فأحوال المجتمع المتضاربة والمختلفة في الصحابة والتابعين وتابعي التابعين هي من أدت إلى ظهور كل ذلك، ولو لم يكن مجتمع الصحابة فيه آراء مختلفة- وهو طبيعي ومحمود- لما كان أدى هذا إلى انتساب أهل المذاهب لتابعي أو صحابي. فمجتمع الصحابة والتابعين فيه الآخذون بالنص على ظاهره بما تمليه سريرتهم، ومنهم الآخذون بالرأي ومنهم المتشيعون، ومنهم من على سيرة بني أمية ومنهم الخوارج وهكذا. فنخلص إلى أن السلفية ليست منهجا إلا أن يقصد بها المعنى اللغوي البسيط، أو مذهب التفويض أصولا وفروعا، لا المعنى الذي يتحمله عقلا وعلما باعتباره قواعد مخصوصة للاستنباط، وهو بالطبع ما لا يتوافر في ما يسمى منهج السلف. ولو أنك استوقفت أي مدع اليوم وسألته أن يشرح لك طريقته في التعامل مع النصوص انطلاقا من منهج قابل للتعميم فإنه سيقف مدهوشا، إذ أن مذهب السلف في فهم القرآن مثلا هو العودة لتفسير ابن كثير والبحث عن ما قاله رأيا ابن عباس وقتادة والحسن البصري وغيرهم مما تتضارب آراؤهم في الآية الواحدة. فما الداعي إذا إلى اختلاف آراء الصحابة والتابعين لولا أنهم يفتون بما يرون لا بما نقلوه عن النبي صلى الله عليه وسلم، وإلا كان قول الني تناقضا وهو محال. وهذه ميزة لهم ولكنها في هؤلاء عندنا عاهة، فالوهابي هو مطموس العقل علامة على الجمود. فالعلم بمعناه السلفي الوهابي هو ألا تفهم وألا تفكر ولكن أن تحفظ ما قيل من آراء تستظهرها في كل نازلة من غير احترام شروط الفتوى وفهم النص. ومثال هذا أن يقول لك شخص إن العرب كانوا ينطقون هذه هكذا فانطقها وكفى، دون أن يجعل لك منهجا وقواعدا تفهم من خلالها الداعي الذي جعل العربي ينطق هذا كذلك، فتنتج على منواله ما لا نهاية من الكلمات. وهذا المثال الذي قدمته في اللغة لا يخرج عن الأمثلة الأخرى الشبيهة بما كان عليه السلف. فالناس إنما احتاجوا للفقه لما دخل غيرهم في الإسلام ففسدت السجية والفطرة، وعليه احتاج الفقيه إلى تتبع واستقراء القرآن والصحيح من الخبر للخروج بقواعد عامة للفهم على أساسها يتعامل كل من جاء بعد النبي بقواعد النبي في الفهم والتعامل مع النوازل والمستحدثات. لكن للسلفي رأي آخر فهو يفضل أن يطمس عقله وفي النوازل ينزل نفسه منزلة النبي والصحابي والتابعي فيكثر عليك من قال وقال وقال دون وعي. يقول ابن خلدون في مقدمته: الفقة هو معرفة أحكام الله تعالى في أفعال المكلفين، بالوجوب والحظر والندب والكراهة والإباحة ، وهي متلقاة من الكتاب والسنة وما نصبه الشارع لمعرفتها من الأدلة، فإذا استخرجت الأحكام من تلك الأدلة قيل لها فقة. وكان السلف يستخرجونها من تلك الادلة على اختلاف فيها بينهم. ولا بد من وقوعه ضرورة. فإن الأدلة من النصوص وهي بلغة العرب، وفي اقتضاآت ألفاظها بكثير من معانيها خصوصاً الأحكام الشرعية اختلاف بينهم معروف. وأيضا فالسنة مختلفة الطرق في الثبوت وتتعارض في الأكثر أحكامها، فتحتاج إلى الترجيح وهو مختلف أيضا. فالأدلة من غير النصوص مختلف فيها، وأيضا فالوقائع المتجددة لا توفي بها النصوص. وما كان منها غير ظاهر في النصوص فيحمل على منصوص لمشابهة بينهما، وهذه كلها مثارات للخلاف ضرورية الوقوع. ومن هنا وقع الخلاف بين السلف والأئمة من بعدهم. ثم إن الصحابة لم يكونوا كلهم أهل فتيا، ولا كان الدين يؤخذ عن جميعهم، وإنما كان ذلك مختصاً بالحاملين للقرآن العارفين بناسخه ومنسوخه ومتشابهه ومحكمه وسائر دلالاته بما تلقوه من النبي صلى الله عليه وسلم أو ممن سمعه منهم من عليتهم، وكانوا يسمون لذلك القراء، أي الذين يقرؤون الكتاب لأن العرب كانوا أمة أمية، فاختص من كان منهم قارئاً للكتاب بهذا الاسم لغرابته يومئذ. يُتبع…