تماشيا مع الوعي الجديد، ألف رضا كتاب «الحكمة الشرعية في محاكمة القادرية والرفاعية»، فيما يشبه إعلانا للبراءة من الانتماء إلى الصوفية. وتفصح مطالعة الكتاب عن نوع من الاختلاف في صيغة النقد الموجه إلى هذه الفرق عن ذلك الذي تمارسه الإيديولوجيا السلفية، فمن جهة لم يبلغ نقد رضا ذات الدرجة من التسفيه والتنقيص الذي نصادفه عند السلفية، ومن جهة أخرى جاء ذلك النقد بما يوافق النظرة الصوفية ومن داخل نسقها الحجاجي، بمعنى أنه لم يعمل، في إطار البرهنة على فكره الديني الجديد، على مجرد إيراد النصوص المقدسة وتراث السلف، بل كثيرا ما كان يكتفي بالقول بعدم نهوض أسس المعرفة الصوفية على أساس صلب قوي تستدل به على ثبوت تلك المعرفة وصدقيتها. يقول في معرض الحديث عن الرؤيا كمصدر للمعرفة الصوفية: «إن ما يسمعه الرائي في الأرواح هو مثل الذي يرونه ويسمعونه في الرؤيا المنامية لا يوثق بصحته ولا يضبطه». وتفيد مجمل أعمال رضا بأن اطلاعه على العروة الوثقى لم يكن يعني تحمسه لمجمل المشروع الإصلاحي الذي نادى به روادها، بل لقد تحمس على الخصوص للإصلاح الديني الذي لم يكن سوى جزء من بين أجزاء أخرى في ذلك المشروع. ولعلنا لا نبالغ إذا قلنا إن فضل التفصيل في عرض ملامح هذا الشق من الإصلاح ورسم منهجيته يعتبر عملا أصيلا لرضا، في حين رغم ورود الإصلاح الديني على لائحة اهتمامات العروة الوثقى، فإن أفكار رواد المجلة في هذا الشق تبين أنه لم يكن سوى اهتمام يقع على هامش جبهات إصلاحية أخرى خالوها أكثر أهمية. قامت إيديولوجيا رضا الجديدة، إذن، على مقدمة جوهرية، وهي أن الإصلاح الديني سابق من حيث الأهمية عن كل إصلاح، وذلك بتخليص العقيدة الدينية من التقليد الأعمى والإيمان الخرافي والمذاهب الفكرية المستوردة، فالوحي المقدس ينبوع المعرفة الصحيحة بجميع ألوانها وأساس المجتمع الفاضل. فمن بين الاهتمامات المتعددة التي تجاذبت اهتمامات محمد عبده والأفغاني، ركز رشيد رضا على عنصرين اثنين على صلة قوية بما يشكل أساس الإيديولوجيا السلفية، وهما: - محاربة البدع التي أدخلت في العقيدة، وخصوصا بدعة البناء على القبور وتعظيمها. - التعليم والإرشاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. كان تركيز رضا على هذين المحورين سبب إقباله على كتب ابن تيمية وابن القيم الجوزية، حيث بادر إلى نشر العديد من كتب هؤلاء المصلحين، فنشر كتاب «التوسل والوسيلة» في نقد الصوفية، «وإغاثة اللهفان في كلام الغضبان» وكلاهما لابن تيمية، و«كتاب مدارج السالكين» لابن القيم. كما أعلن أن مجلة «المنار» سلفية الطابع وأن غايتها موجهة إلى محاربة البدع والرجوع بالدين إلى ما درج عليه السلف، كما توسع في كتابة المقالات في مواضيع الشفاعة والتوسل والتصدق والاجتهاد، مما عرض الخط السلفي الذي عبرت عنه المجلة لهجوم من طرف الأوساط الأشعرية المسيطرة التي عبرت عن آرائها من خلال مجلة الأزهر. وفي مرحلة متأخرة من حياته، لم يتردد رضا في إعلان إعجابه بالحركة الوهابية، من خلال كتابه «الوهابيون والحجاز» الذي كان بمثابة دفاع مذهبي وسياسي عن الوهابية، فقد كان تجميعا لمقالات سبق أن نشرها رضا على صفحات «المنار»، وفيها دوّن رضا تاريخ دعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب ومراحل قيامها وحال منطقة نجد قبل وبعد الدعوة، معتبرا عبد العزيز آل سعود إمام السلفية في عهده. إن الحكم على مدى انطباع تفكير رشيد رضا بالطابع الوهابي لا يستقيم إلا إذا تم استحضار اهتمام آخر استغرق جهد هذا المصلح وهو تفسير القرآن الكريم، ذلك الاهتمام الذي ورثه رضا عن شيخه محمد عبده، آخذا على عاتقه شرح الأجزاء المتبقية من القرآن بعد وفاة عبده وإخراجها في تفسير جامع بعدما كانت تنشر على صفحات «المنار». يمكن أن نميز بين مستويين يتجاذبان التفسير الجديد: - مستوى المبادئ والمنطلقات، وفيه نكتشف ترديدا للمعتقدات التي دعا إليها محمد بن عبد الوهاب، وخاصة منها مسألة التوحيد وما ينتج عنها من تقسيمات («توحيد الربوبية» و«توحيد الألوهية»)، كما نلمس الكثير من المحاباة والمجاملة للفكر السلفي في صيغته الوهابية عندما اعتبر أن التوحيد يمثل عصب مختلف أوجه الإصلاح. - أما المستوى الثاني، فيتمثل في المنهج العام الذي طبع التفسير الجديد قياسا بالتفاسير الكلاسيكية، فإذا كانت هذه الأخيرة تكتفي بالشرح اللغوي لبعض الألفاظ وتوضيح بعض التراكيب والجمل وتعليلها نحويا وبيان بعض أوجه المجاز في الآية إن كانت واردة.. وإذا كانت التفاسير السلفية تزيد على ذلك بشرح القرآن بالسنة، بمعنى دعم التفسير بالأحاديث الواردة عن النبي وآثار السلف الواردة بشأن الآية أو السورة المشروحة، فإن رضا قد تعدى هذه الطرق التقليدية ليبلور طريقة جديدة تظهر من خلال مجموع خصائص تتجلى بوضوح من تحليل المجلد الأول وهي: - سرد مقدمة هامة للسورة يتحدث فيها عن الفوائد والقواعد والأحكام الشرعية التي اشتملت عليها. - العناية بالعلوم الاجتماعية والطبيعية والإشارة إليها في الأماكن المناسبة لها في التفسير. - ذكر المسائل الخلافية وترجيح بعض الأقوال فيها على بعض حتى لو كان لأهل الكلام أو الإشارة فيها رأي آخر. - التوسع في رد الشبهات في مجال الإلهيات. - العناية بالجوانب اللغوية الإبداعية والتشديد على القواعد النحوية. لقد تميز المنهج الجديد بإعمال الرأي في التفسير، وإذا كان ذلك لا يمثل جديدا قياسا بالتفاسير الكلاسيكية، فإنه يتخذ في ذلك مسافة غير هينة من المدرسة السلفية التي تعتبر ذلك خروجا عما تقتضيه صحة الفهم من الالتزام بتفسير السلف للنصوص، كما نلمس في تفسير رضا اعتدادا بالتأويل، خصوصا في باب الدفاع عن القرآن ورد بعض الشبهات التي أوردها بعض الفلاسفة والمستشرقين، إذ رأى رضا أن التأويل هو المنفذ الوحيد للرد على هؤلاء. وبخلاف السلفية، لم يعتبر رضا ذلك خروجا عن الشرع إذا كانت نتيجة التأويل لا تعارض شيئا مجمعا عليه في الدين، وكان من المعلوم بالضرورة. لكن ذلك لا يعني تجديدا كليا بالضرورة، فقد حافظ رضا على منهجية التفسير العام المعتمد عند السلفيين أنفسهم، تفسير الظاهر بالمأثور، وذلك من خلال ميله إلى النقل والتجميع وتركيم الآراء النقلية والروايات الفقهية والأحاديث النبوية في تفسير الآيات، والتوسع أكثر من شيخه عبده في هذا المجال. وفي مجال الفتوى، لا يكاد المنهج العام لرضا يحالف أصول المذهب الحنبلي في مراعاة النص القطعي، والأخذ بفتاوى الصحابة وترجيح أقوالهم إذا انعدم الدليل من القرآن والسنة، واعتماد أقرب المعاني إلى النص في حال تعدد الآراء، واللجوء إلى الأحاديث الضعيفة إذا انعدم النص وكثرت الإحالات. أما في مجال الفرق والنحل، فقد ابتعد رضا كثيرا عن تقريرات الإيديولوجيا السلفية في ما يتعلق بالموقف من الفرق الإسلامية، محللا اختلافها وباحثا عن السبل التي يجب اتباعها لجمع شملها. فبخلاف القول السلفي الجاهز بذم الاختلاف ومهاجمة الفرق، سعى رضا إلى فهم الظاهرة دون أن نلمس في مواقفه شيئا من التعصب المشفوع بالأحكام المسبقة، ذلك أن الأمر لا يتعلق، حسب رضا، سوى بمجرد خلاف سياسي وليس بخلل فكري أو عقدي بين طوائف المسلمين، فهي عنده موحدة الأصل، معتبرا أنه ليس من اهتمامات «المنار» تفصيل مسائل الخلاف لأنها «مجلة المسلمين عامة تضمهم بالأصل المتفق عليه عند الجميع، وهو كتاب الله والسنة العملية التي عليها السلف الصالح بلا خلاف». عدا هذه المحاور، لا يقدم تراث رضا ولا الدراسات المتناثرة حوله المزيد من المؤشرات حول قيمة الرجل بالنسبة إلى مجمل أعلام الفكر السلفي، ولا تحدد بوضوح تام مساهماته الشخصية في تطوير هذا الفكر، وهو عامل نخاله سببا في تفاوت موقف الاتجاهات السلفية الحالية نفسها من مجمل التراث الإصلاحي لرضا، لكنه وعلى العموم يبقى أكثر الشخصيات الإصلاحية قربا من الدوائر السلفية، إذ بالرغم من تحفظ العديد من الرموز المعاصرة على الاعتراف به مفسرا معتمدا في تفسير القرآن، واكتفائهم بالإحالة على عقيدته في باب الأسماء والصفات وبعض الأفكار التي أوردها في أواخر حياته وكان يتبنى فيها مذهبا سلفيا واضحا، فإن البعض منها يعترف له بالمكانة ضمن الآباء المؤسسين للسلفية تقديرا لجهده الإصلاحي في الشق الديني واعتنائه الواسع بالعلوم الدينية كالتفسير والحديث ومقاومته للبدع وإصلاح الخطابة وتخفيفه من النزعة العقلية في التأويل التي تجلت عند شيخه محمد عبده. يتبع... عبد الحكيم أبواللوز - باحث في علم الاجتماع الديني المركز المغربي في العلوم الاجتماعية