"فيا ليت أمي لم تلدني، ويا ليتني مت قبل حدوثها وكنت نسياً منسياً"، هكذا تحدث المؤرخ ابن الأثير الجزري -بعد طول تردد- في كتابه «الكامل في التاريخ» من شدة صدمته من همجية التتار «المغول» وتنكيلهم بالمسلمين، حتى وصف البعض تلك المرحلة بأنها «قيامة مختصرة» من شدة هولها. تذكرت هذه المقولة، في وقت يقف فيه العالم العربي والإسلامي والعالم الغربي، عاجزاً عن إيقاف مجازر النظام السوري، مدعوماً بالميليشيات الشيعية ومقاتلات الروس في حق المدنيين في الغوطة الشرقية بسوريا، كما حصل من قبل في حلب وغيرها، العالم يتفرج على قتل الأسد للشعب السوري بالكيماوي. تذكرت مقولة ابن الأثير، في ظل سياق دولي متواطئ ضد العالم العربي والإسلامي المتشرذم من ميانمار «بورما سابقاً»، إلى فلسطين التي يراد تصفيتها كقضية من خلال ما يسمى ب «صفقة القرن»، بمساهمة أيدٍ «عربية إسلامية»، ومطلوب من الجميع اليوم أن يعزف مقطوعة العم سام طوعاً أو كرهاً، ومن «يشذ» عنها ويرفض فله الويل والثبور وعظائم الأمور. الوضع اليوم يبدو أسوأ من زمن التتار الأوّل، لأنهم ساعتها كانوا قوة عسكرية هوجاء تجتاح العالم لصنع إمبراطورية، دون سعيهم لنشر مذهب ديني أو حضارة أو ثقافة معينة إذا صح التعبير، بل العكس تأثر التتار -وهم الغالبون يومها- بدين وقيم وحضارة المغلوبين، خلافاً لقاعدة ابن خلدون (المغلوب مولع أبدا بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده). أما تتار اليوم فوضعهم مختلف، فهم ليسوا بنية بشرية وسياسية موحدة، بل أطراف جمعت بينها مصالح ذاتية، ومقاربة عدائية للعالم العربي والإسلامي، باستغلال أخطاء وانحرافات لأقلية صغيرة جداً، حمّلوا وزرها لكل المسلمين. وتتمثل هذه الأطراف من جهة في إدارة روسية بوتنية، تسعى لاستعادة أمجادها، وتوسيع نفوذها، وإدارة أميركية ترمبية، تسعى لتعميم نظرتها ورؤيتها للعالم، وحماية الكيان الصهيوني، والتمكين له وسط العالم العربي والإسلامي. ومن جهة أخرى، أنظمة حاكمة فاقدة للشرعية، تواجه رفضاً معلناً صريحاً من شعوبها، كما يحدث مع نظام بشار الأسد بسوريا، ونظام عبدالفتاح السيسي، ولذلك لم يجد الأسد حرجاً في الترحيب بالمقاتلات الروسية لقتل الشعب السوري، وتدمير البلد بتلك البشاعة، ولم يتردد السيسي في ارتكاب مجزرة في اعتصام رابعة، وذبح الديمقراطية والإرادة الشعبية من الوريد إلى الوريد، لضمان ولاية رئاسية ثانية. وتُضاف حركات وجماعات دينية متطرفة -سواء المحسوبة على السُنة كتنظيم داعش، أم المحسوبة على الشيعة من قبيل الميليشيات التي تقاتل في صف بشار الأسد وغيرها- للطرفين المذكورين، اللذين جعلا من مواجهة الإرهاب غطاء للمضي في مخططات غير معلنة، لكنها مكشوفة حسب تقارير إعلامية عديدة. وطبعاً الغرب «الرسمي» صمت وتفرج، وما زال يتفرج على ذبح بشار الأسد للسوريين لمطالبتهم بالحرية والديمقراطية، وإجهاض السيسي لبداية تجربة ديمقراطية بمصر، وحربه الاستئصالية ضد المعارضة، والانتهاكات المستمرة للكيان الإسرائيلي لحقوق الشعب الفلسطيني، بل إن الرئيس الأميركي دونالد ترمب استثمر هذا الواقع، واعترف بالقدس عاصمة للكيان المذكور. الغرب تفرج كذلك على الثورات المضادة في أكثر من بلد من بلدان ما يعرف ب «الربيع العربي»، من باب «لم آمر بها ولم تسؤني»، بل هناك دول غربية دعمت تلك الثورات بطرق غير مباشرة. ولم يلقَ قرار ترمب المذكور المعارضة والرفض المطلوبين، إذ لم تدم الإدانات والمسيرات الاحتجاجية إلا بضعة أسابيع، فالشعوب العربية والإسلامية محبطة مما جرى ويجري، ولم تعد تتفاعل مع أحداث جسام وقرارات خطيرة كقرار ترمب المذكور، وانخفض نفسها الاحتجاجي إلى درجة متدنية جداً. باختصار، نحن نعيش ظرفاً تاريخياً صعباً جداً، وربما القادم أسوأ، لأن تتار هذا الزمن لا يسعون للغلبة على الآخر فقط، بل يعملون على محو هويته، وطمس شخصيته، وتتفيه ثقافته، واتهام دينه ظلماً وعدواناً بما هو بريء منه، للتمكين لثقافة واحدة و"حضارة" واحدة وتنميط العالم، وضبط إيقاعه على ما يريده العم سام، ووفق ما نظّر له صامويل هانتنجتون في "صدام الحضارات"، وفرانسيس فوكوياما في "نهاية التاريخ". لكن هل يعني هذا أن الأمة العربية والإسلامية المقسّمة والمتشرذمة استسلمت وانتهى أمرها؟، التاريخ يقول إن هذه الأمة قد تضعف وتنكسر، لكنها وهويتها عصية على المحو والذوبان، وتملك القدرة على النهوض واستعادة المبادرة والدخول للدورة الحضارية من جديد، في الوقت الذي يعتقد عدوها وخصمها أنها انتهت. * كاتب مغربي بقطر