القراءة السوسيولوجية السريعة للتحولات المجتمعية المعقدة التي تصطبغ بها بلداننا ، تقدم إيضاءات على الخلفية المادية و الموضوعية و المعنوية لتوترات اللحظة ، ذلك أن اتجهات التطور تحمل مفارقات واضحة بين فرض السلطوية و بين الانفتاح على براديغمات الديمقراطية بما تجره من إحلال للحقوق الذاتية و الجماعية و التخوف من المآلات الواقعة على المستقبل... فمن جهة نلحظ نزوعا نحو الحداثة التي تفرض طغيان مقومات الفردانية ، تتغذى بالتحولات المتسارعة التي تلحظها الحواضر و الأسر و نمط التعليم ؛ و من جهة أخرى عودة قوية لخطابات الهوية و إفراز النخب و فرض حاكمية الاستعلاء، عبر صناعة بروفايلات تخلق الشعور بالديمقراطية و المواطنة عبر خطاباتها ، كوسيلة لتشجيع الأفراد على قبول سياسات السلطة ... و اعتماد ثقافة التفاصيل باعتبارها سلاحا ناجعا لتقديم الوقائع الاجتماعية التي تنزاح عن المكون اليومي لتتحول في ظل السلطوية إلى حدث اجتماعي بارز ، يشغل الرأي العام المتوزع بين صوتين ( صوت التأييد و صوت الرفض )... و لا سبيل في نظرنا لإيقاف سلطوية السياسة إلا بالاحتكام إلى ديمقراطية تتنازع في تنزيلها مقومات الحرية و الاختيار و التمكين ، فالديمقراطية وحدها غير قادرة على إدارة إرادة الجماهير بفعالية تحقق مقاصدها ، و تكمن هذه الإرادة الثلاثية في كلمة صناديق الاقتراع التي من شأنها أن تهزم الراغبين في الوثوب إلى السلطة و الانقضاض على الحكم لتحقيق سلطوية تناقض حركة التاريخ و قوانينه... و إذا كانت الديمقراطية في أدق محدداتها ، مدخلا لتنزيل القيم السياسية و الحضارية التي من شأنها أن تبيد التخلف و الاكتواء بنار الظلم و تحقيق مطلب الرخاء الاجتماعي ، و عدم إباحة صعود الديكتاتوريين الذين تعاقبوا على غدارة الشأن العام و تدبيره .. فإن روح الحراك الاجتماعي كعنوان تاريخي من عناوينها صَوَّلَ فكر فئات عريضة ممن لحقها عَسفُ سنوات التآمر عليها ، في سياق وعي حاد و تاريخي بما عرفته الساحة من تحولات عميقة ، راحت تحاور اجتهاداتها و مواقفها السابقة ؛ عبر تبني مراجعة تقويم وفق ما شهدته الساحة من ثورة أطاحت بأعتى الديكتاتوريات و لم تلبث أن أنشأت بدائل مركزية لم تنتزع طغوة النزوع إلى الإصلاح بعد.. لكل ذلك ، عزفت سياسات السلطة أهزوجة لُحنت بخطابات منمقة ، خرجت عن سياق تنزيل الديمقراطية ، إلى محاولة صناعة حكام يراكمون المنافع المادية المدعومة عمليا بسلطة الاستبداد و القهر ، و يوظفون آليات نشر التخلف بمستوياته المتعددة لمن تحت ولاياتهم ، في ابتعاد عن كل الانتماءات الضيقة التي تقلص حجم ارتباط المواطن بوطنه ، و محاصرة حبه له و رغبته الجِبِليّة في رؤيته ناهضا معافى من علل الإملاءات الخارجية و علاقات المصالح ... و السهر على رعاية التحكم ، باعتباره مفهوما نُحت بالموازاة مع عمليات تضخيم السلطوية و استنزاف خيرات الوطن ، و من خلال ما كرسه من قيم قاتلة و ثقافة معطوبة ... و بكل هذا القرح ، انخرطت سياسات السلطة في صناعة نظرياتها ، و طفقت تقصي إرادة الشعب من التأسيس و الاستناد ، باختيار حكامة خشبية مشلولة رسمت قواعد جديدة للانتفاع غير المشروع ، و نصَّبت للدولة خُداما ينتزعون حقوق أبناءها بقوة قاهرة ، شَجبُها مثار سخرية لقد تحول في بُرهة دعاة الديمقراطية إلى منافحين عن قوى الاستبداد من فتات السر و العلن .. في انقلاب على التأويلات التي تحققها ، يبحثون عن مفاهيم قادرة على تعطيل الإرادة الشعبية و إلغاء اختياراتها ، حتى تنتشي خططهم العبثية المهندسة ، بلذة التخلف و التراجع ، ترقص بعراء على الأحبال ، و تلوي أعناق مصطلح السياسة ، لتؤبد سلطة الاستبداد و التخلف و تمنحها فسحة و عمرا مديدا .... لقد آمنا بالديمقراطية بوابة لتحقيق التوزيع العادل للثروة التي نجهل مصدرها ، تنتفي معها كل تجليات ما صوروه لنا منذ أكثر من قرن بأنه التوزيع المنصف لثروات الوطن ، و بأنها حقوق مادية مستحقة لفئات تكد و تتعب من أجل الوطن ، و أننا نحن الخاملون الكسالى الذين آلت إليهم طموحات محدودة سخيفة ، لم ترق بعد لأن تزاحم طموحات أولئك المستحقين الذين ورثوا الخيرات و الثروات... وَهمٌ قاتل تسرب إلينا عبر مسامنا المفتوحة على بهتانهم و مكرهم ، و جرعوه لنا على مراحل و دفعات ، مستخدمين سلطوية السياسة المتعددة التخصصات ، مستثمرين ما وقع تحت أيديهم من وسائل و إمكانات .. لننعم بفراش التخلف و التراجع ، نترنح فيه و لا نكاد نراوحه..