لم تفلح السنوات الطويلة في مغرب ما بعد الاستقلال في فك رموز أم الوزارات، ولم تسعف الإصلاحات الدستورية ولا التحولات المجتمعية في تطويع هذه الوزارة، التي ظلت تحمل في جيناتها مضادات قوية مقاومة لكل محاولات الدمقرطة وتبني السلوك المدني الذي تقتضيه الدولة الحديثة. لا نشير هنا لدور وزارة الداخلية القديم الجديد في صنع الخرائط الانتخابية، ولا لتدخلها البئيس لصالح أحزاب ومرشحين بعينهم كما حصل في انتخابات 2016 الأخيرة، بل نقصد إقدامها قبل أيام على رفض مبادرة خلاقة لمجلس جهة درعة تافيلالت، تقضي بتعميم المنحة الجامعية على من تبقى من الطلبة الجامعيين المستحقين، الذين لم تشملهم منحة الوزارة. لقد رصد مجلس جهة درعة تافيلالت مبلغ 12 مليون درهم عن سنة 2018 كمنح لطلبة الجهة الذين لم يحصلوا على منحة الوزارة، على الرغم من تسجيلهم في قوائم المستحقين، وقد تمت هذه العملية الاجتماعية في إطار شراكة بين المجلس وكتابة الدولة في التعليم العالي من جهة والمكتب الوطني للأعمال الاجتماعية للتعليم العالي من جهة ثانية. لقد شكلت هذه المبادرة، في جهة تعيش واقع الفقر والحاجة، تتميما وتثمينا لمجهودات الدولة من جهة، وسدا لحاجة اجتماعية ملحة من جهة أخرى، وهي أيضا نقطة ضوء من شأنها أن تساهم إلى جانب مبادرات أخرى في إسترجاع بعض من الثقة المفقودة في مؤسسات الدولة والمجالس المنتخبة، في ظل واقع حزبي وسياسي موسوم بالرداءة في كل شيء، غذته بلا شك الانتكاسات المتتالية التي عرفها المسار الديمقراطي في بلادنا، والتي تهدد بأعادة عقارب المغرب إلى ما قبل دستور 2011. لم يكن مجلس جهة درعة تافيلات المجلس الوحيد الذي تبنى هذه المبادرة، بل سلك مجلس جهة طنجةتطوانالحسيمة النهج ذاته، بفارق بسيط أن الأول اختار تعميم المنحة الجامعية على جميع الطلبة والطالبات المستحقين والمستحقات، وفق القوائم المعدة من طرف اللجن الإقليمية بأقاليم الجهة، في حين قام الثاني، أي مجلس جهة طنجةتطوانالحسيمة، بتوزيع الدعم عبر سنوات. غير ان المفاجأة التي نزلت كالصاعقة على أسر وطلبة جهة درعة تافيلالت هي رفض وزارة الداخلية المصادقة على الاعتماد المالي المخصص لمنح الطلبة دون تبرير هذا القرار المشؤوم !!! في الوقت الذي صادقت على مقرر مجلس جهة طنجةتطوانالحسيمة !!!. وحتى إذا سلمنا أن مقرر مجلس جهة درعة قد تكون اعترته بعض النواقص الشكلية أو القانونية( وهو ما أستبعده تماما)، فإن استحظار مبدأ العدالة المجالية، وترجيح المصلحة الفضلى للطلبة الذين يعيشون الفقر والحاجة، وتغليب الروح الوطنية العالية، كل ذلك يفترض أن تقوم مصالح وزارة الداخلية بإرجاع مشروع الميزانية كاملة لمجلس الجهة قصد إجراء التعديلات اللازمة ثم المصادقة عليها من جديد، وليس أن تعمد الوزارة إلى المصادقة عليها مع حذف الاعتماد المخصص لمنح الطلبة !!! إن وزارة الداخلية بقرارها المتسرع هذا، لا تحرم الطلبة من حقهم في منح قررها مجلس منتخب بمقرر رسمي ووفق الشكليات المطلوبة، بل تعبر مرة أخرى عن عقلية متخلفة وجامدة لا يمكن الرهان عليها لبناء نموذج تنموي جديد. وكان حريا بهذه الوزارة أن تتنبه لأمر في غاية الأهمية والحساسية، وهو كون هذه المبادرة – على بساطتها – ترسم ملمحا من ملامح نموذج تنموي جديد، يجعل البعد الاجتماعي في قلب التفكير والفعل التنموي، باستهدافها تخفيف العبء عن عدد كبير من الأسر الفقيرة العاجزة عن تأمين تكاليف الدراسة الجامعية لأبنائها من طلبة الجامعة، فضلا عن بعدها المجالي، على اعتبار أن المناطق المعنية لم ينلها من السياسات العمومية حظ كبير، مما يجعل مثل هذه المبادرة وغيرها مدخلا لإعادة الاعتبار لتلك المناطق ولو بشكل رمزي. كما أن عقل الداخلية لم يأخذ بعين الاعتبار ان الهاجس العلمي والمعرفي الذي تعلي المبادرة من شأنه، حين توجه الدعم لطلبة الجامعة وليس لغيرهم من الفئات الاجتماعية المعوزة، محاولة توفير الحد الأدنى من الإمكانات التي تمكنهم من استكمال دراستهم، وفي ذلك تحفيز لطاقاتهم واستنهاض لهممهم للانخراط في مجتمع العلم والمعرفة. والأدهى من ذلك أن وزارتنا المبجلة لا تدري أن يدها الطويلة تعيق بمثل هذه المواقف الغريبة قيام المؤسسات المنتخبة بأدوارها، وخاصة مجالس الجهات في صيغتها الجديدة ، وتبقيها بذلك رهينة منطق التعليمات التي جعلتها لسنوات طويلة حبيسة تدخلات تقليدية، بعيدة كل البعد عن معاني الجهوية المتقدمة، وغير قادرة على ملامسة انشغالات المواطنين وتطلعاتهم الحققيقية. كما ان هذا القرار المجحف يجهض للأسف الشديد روح الإبداع لدى المؤسسات المنتخبة؛ فمبادرة مثل مبادرة مجلس جهة درعة تافيلات القاضية بتعميم المنحة على الطلبة المستحقين بمناطق الجهة وأقاليمها – رغم بساطتها ومحدودية الاعتمادات التي رصدت لها – فهي خروج عن المألوف ومؤشر على بداية تشكل فكر مبدع يتوافق في العمق ومتطلبات النموذج التنموي المنشود. إن وزارة الداخلية برفضها هذه المبادرة المبدعة التي تكاملت فيها الأبعاد الاجتماعية والمجالية والعلمية والمؤسساتية، تكون قد وأدت في المهد أولى ملامح النموذج التنموي الجديد الذي ينشده المجتمع المغربي، بعد تسليم الجميع بفشل النموذج الحالي.