إن تكلفة الأزمة الداخلية التي عرفها حزب العدالة والتنمية، بعد زلزال إعفاء زعيمه بنكيران من تشكيل الحكومة، بحدتها غير المسبوقة وفي المتغيرات والتحديات التي تطرقنا إليها في الجزء الأول، هي تكلفة باهظة وخطيرة، إن على المستوى الداخلي إذا استمر الجدل الحاد وتصدَّع أساسُ الثقة، وإذا استمر الترقب الحذر لمآل الحوار الوطني؛ مما يؤدي إلى إهدار الطاقات والانشغال عن الدور السياسي للحزب ومؤسساته وقياداته وأعضائه.. أو على المستوى الخارجي في علاقة الحزب بتنامي "بلوكاج" التنمية المجتمعية، وتهديدات قوى الفساد والاستبداد، للتخلص من تركة عملية الإصلاح التي دشنتها مرحلة ابن كيران، ولإزاحة الحزب من عملية التوازن لفرض واقع جديد واستعادة مبادرة التحكم بنفس الأساليب، لكن بوجوه جديدة وأدوار جديدة. يضاف إلى كلذلك ما أفرزته خلخلة البيت الداخلي للحزب من أجواء عدم الرضى الشعبي والترقب والارتباك في الأوساط الاجتماعية والسياسية، نظرا إلى فجائية التحول عن المسار الديموقراطي بعد نتائج 07 أكتوبر؛ وبالتالي أصبح هناك فراغ كبيرعلى مستوى الدولة أحدثته المحاولات الحثيثة غير المحسوبة لإضعاف الحزب كسابقيه من لعب دوره التأطيري السياسي والاجتماعي للاحتجاجات الصاخبة التي تظهر هنا وهناك مما قد يفرز نوعا من السلوكات المنفردة والمنفلتة والتصادم والصراع مع الدولة بما لا يخدم المصلحة العامة ولا المطالب الاجتماعية.. وأمام هذه المعطيات والمستجدات المثيرة،نتساءل عن الرهانات التي يستطيع بها حزب العدالة والتنمية استعادة المبادرة لمواجهة تحدياته،وليستعيد مبادرة ترسيخ عافيته، والاستمرار في دوره المشهود له، خلال المرحلة السابقة تحت شعار "الإصلاح في ظل الاستقرار"؟ الرهان الأول هو الرهان على تحقيق الوحدة العضوية، بتجاوز هيمنة القطبية الأحادية والمحورية في صنع القرار الحزبي إلى قطبية متعددة ومتنوعة، بما يتوفر عليه الحزب من كفاءات شبابية واعدة، وطاقات هائلة أقصتها الجغرافية وبعدها عن المركز الرباط ونواحيها، أبانت عن نفسها رغم ذلك بطريقة هائلة، وأبانت عن تفوقها في الوعي السياسي وقدرتها على التحليل وتدبير الاختلاف بمستوى عال من المسؤولية والالتزام؛ هو رهان أساسي في تقديرنا للقيادة الجديدة التي تترأس الحكومة، والتي لا مَناصَ لها من الاستناد إلى الحزب بأكمله وبكافة أطيافه؛ لأنه رغم نجاحه في المؤتمر من الناحية الإجرائية الديموقراطية، إلا أن هذه المرحلة قد خلفت جروحا غائرة وأمراضا مركبة عديدة في جسم الحزب، بل في جسم المجتمع كله؛ فإما أن تكون الانطلاقة الجديدة الوصفة التي يتعافى بعدهاويعود لريادته ومكانته البارزة والقوية في المعادلة السياسية، وإما لا قدر الله أن يجري وراء السراب ويغرق في الاصطفاف الانقسامي والتجاذبات التي تعمق جروحه؛ فيدخل في غيبوبة أو موت سريري، كما يريده التحكم في خطته المعلنة، منذ مرحلة "البلوكاج الحكومي". لذلك، فإن من الحكمة والحصافة الاستراتيجية أن تخرج القيادة الجديدة مما جرى، وما زال يجرى، في الوطن كله، وفي دهاليز الدولة، بخلاصات واعية ومعقولة، وأكثر قوة وتماسكا، وأن تعود بوْصلة الحزب لمساره الصحيح، بعيدا عن أي تشعب يخرجه عن هويته الأساسية التي هي الإصلاح ومحاربة الاستبداد والفساد. هذا الرهان أساسي؛لأنه الكفيلبمساعد القيادة الجديدة، ودعم الحكومة وحمايها، ومن شأنه أن يعرقل أهداف التحكم الذي ظن في حساباته أن الثور الأبيض قد أكل وحان دور الثور الأسود؛ وهي أهداف قائمة على السعي إلى الالغاء والتدجين ومسخ دور الحزب في الحكومة ثم في المجتمع. الرهان الثاني المكمل للأول هو تنظيم عملية تقييم شامل للمرحلة الراهنة؛ مع العلم أن القاعدة العريضة للحزب تمنت لو شهدت من الحزب نقدا للذات ولمسار تكونهاولما جرى خلال الفترة الفاصلة بين إعفاء ابن كيران والمؤتمر، وتقييماً حقيقيا على جميع المستويات السياسية والتنظيمية والاجتماعية في أفق الاستعداد للمتغيرات الجديدة، ووضع أطروحة مناسبة لهذه المرحلة المتسمة بخاصيتين بارزتين: الأولىهي العودة القوية وغير المسبوقة منذ دستور 2011للاستبداد والفساد ؛والثانية هي قابلية الانفجار المجتمعي،وصعود ملفت للممانعة المجتمعية التي قد تتخذ أشكالا سلبية، في ظل الامعان والتمادي في استصغار التنظيم الحزبي وإحداث فراغ التأطير السياسي الجاد والمناسب. الرهان الثالث هو الرهان على استعادة الحزب حكومة وبرلمانا للمبادراتالصريحة والقوية تكون منحازة إلى الشعب بجميع طبقاته التي انهكتها ستة أشهر من البلوكاج الحكومي وعطلت الاستثمار ومصالح المواطنين، وأنهكتها الرأسمالية المتوحشة التي نهبت ثروات البلاد الفلاحية والمعدنية والتي هيمنت على جميع الخدمات الصناعية والتجارية، بلا رقيب ولا حسيب، وهي الطبقات التي أنهكها تردي الأوضاع الأمنية والصحية والتعليمية واضطراب الأوضاع الاجتماعية في عدد مناطق المملكة؛هو رهان يقتضي المبادرة الفورية لمنح منهج ومشروع الاصلاح، الذي دشنته المرحلة السابقة بنجاح وبإعجاب شعبي باهر، صفة الديمومة والتراكم. الرهان الرابع هو الحاجة إلى استراتيجية تبني القيادة الجديدة لمقاربة تواصلية فعالة وصريحة، والاعلان في مختلف وسائل الاعلامووسائل التواصل الاجتماعي خاصة عن رسالة واضحة، لا لبس فيها للمناضلين وعموم الشعب المغربي، ودالة على الاستمرار في الخط الاصلاحي الذي دشنته المرحلة السابقة، مرحلة الأستاذ عبد الإله بنكيران ؛ هي استراتيجية من شأنها أن تبدد الشكوك وتستعيد ثقة جميع الأعضاء وعموم الشعب المغربي، وتعيد الشّعور ببعضهم البعض،وتقرّب وجهات النّظر بتبادل الأفكار والمعلومات والمعارف والمهارات والمواقف؛ وهي استراتيجية للاحتفاظ بثقة وتعاطف الرأي العام، حتى في حالات الأزمات؛ وذلك بإتاحة المعلومة والشفافية المعلوماتية التي تغلق باب الاشاعة وتحاصر المؤامرة من كل جانب، وإتاحة حرية معالجة المعلومة وإشراك الناس في اتخاذ القرارات بالإنصات وتقدير الرأي العام. لا يَخفى، بخصوص أهمية الرهان الأخير، أنه ليس مقبولا اليوم الانغلاق وتجاهل أهمية الثورة المعلوماتية بإمكانياتها المتطورة وما يرتبط بها من تدفقات الاتصالات بين الأفراد والمجموعات والجماعات والهيئات؛ والنتيجة هي تغيرات جذرية في أسلوب ممارستنا السياسية وأسلوب حياتنا بصفة عامة، لا يمكن معها الاستهانة بانعكاساتها بما يلغي تقريبا خصوصية الأحزاب والمجموعات والشخصيات العامة والأفراد العاديين وحتى خصوصية الدولة؛ وفي القريب العاجل ستظهر الحكومة الالكترونية في جميع الدول المتقدمة، حكومة معلوماتية، وحكومة عدالة التدبير الالكتروني والحكامة الرقمية، بدون أهمية للبنايات والمقرات على جميع المستويات وفي جميع المجالات؛ ولا شك أن أية دولة أو هيئة سياسية متخلفة عن هذا الواقع الافتراضي ستكون مغتربة، ولا يمكن تصور خطورة وحدود تأثير مشكلة اغترابها على استقرارها وتطورها. إذن، بالنسبة لمستقبل حزب العدالة والتنمية، إذا أخذ بهذه الرهانات مأخذ الجد، وفي ظل الثورة المعلوماتية، كمستجد فاعل ومؤثر وحاسم، فإنه لن يشبه في مآله الأحزاب الأخرى، بسبب ما وقع له، وبسبب ما يخطَّط له. لقد أخط من ظن أنه سيسهل التحكم فيه بالطرق التقليدية البالية، وأخطأ من ظن أن مشروع بنكيران وصحبه سيكون مصيره مثل مصير المشابهين له في الماضي؛ لأن الزمن زمن المعلوميات سريع المضي إلى الأمام، ولأن التاريخ لا يعيد نفسه في جميع الأحوال. دكتوراه في العلاقات العامة وماجستير علم نفس الطفل ومجاز في الفلسفة