يستعد "ضحايا النظامين" لخوض احتجاجات أخرى في العاصمة الرباط بداية الشهر المقبل، وذلك بعد سلسلة من الاحتجاجات والوقفات التي كانت بحق ناجحة ومثمرة، قياسا إلى النفس النضالي الذي يتمتع به هؤلاء، الذين شكلوا ملحمة بطولية في التاريخ النضالي للشغيلة التربوية إلى جانب الأساتذة المتدربين طبعا. لن أنساق هنا، أخي القارئ أختي القارئة، إلى التركيز على حيثيات الملف وفحواه، أو شرح تفاصيله، لأن شرح الواضحات في العرف تثير القرف، لذلك فعين العقل يقتضي هنا ألا نسعى إلى تكرار سرد المشكل ووصفه، ولا حتى تقفي أثره، بالبحث عن علله الأولى ومآلاتها الجائرة، فهذا أمر متجاوز ويعد "من باب السماء فوقنا"، لذلك سنحاول أن نميط اللثام عن خلفيات وأبعاد هذا الملف ودلالاته المُرة الثاوية وراءه. يكاد يكون من البديهي القول إن العشوائية من صميم تدبير قطاع التعليم بالمغرب، لذلك فالتخبطات التي يعيشها هذا القطاع في بلدنا كثيرة، والملفات العالقة التي تحتاج إلى تدخل عاجل وفعال متعددة. إلا أن قضية "ضحايا النظامين" تعد أولى الأولويات، فإن كان من وصمة عار على الدولة، فهي هذه القضية التي عمرت طويلا، والتي تعكس حقيقة مرة، وتجلي لنا إلى أي حد يمكن للوطن أن يخون أبناءه و يهين رجاله وأي رجال؟، رجال أفنوا عمرهم في سبيل إعداد الطاقة البشرية التي تحمل المشعل في المستقبل، بل منهم من أصبح مسؤولا في الدولة وتتلمذ على أحد هؤلاء الذين لولاهم ما تحقق حلمه في أن يصبح طاقة "يخدم الوطن". فكيف نقبل بهذا الوضع؟ هل يستقيم أن نهين فئة قدمت للوطن خدمات جليلة؟ أ يرضينا أن يتقاعد هؤلاء على وقع النضال واستجداء الحق كمن يستجدي اللئام؟... علينا أن ندرك ياسادتي، أن ضحايا النظامين، ما هم سوى إحالة على ملف له علاقة وطيدة "بالسياسة الارتجالية "التي تدبر بها الدولة قطاعا حساسا يشكل العمود الفقري للدول، ومرتكزا لقيام الحضارات وهو التعليم، فقد بات يعيش على وقع أزمات متجددة لا تكف عن الانبثاق والتدفق، وكأننا أمام ثدييات فصيلتها تمعن في تفريخ المصائب تلو الأخرى... علينا أن ننظر إلى ملف ضحايا النظامين على أنه دلالة على غياب سياسة احترازية في التعامل مع قطاع التربية والتكوين في بلدنا، وهو بالتبع دلالة على استهتار بالطاقة البشرية التي ضحت ولا تزال تضحي في سبيل كسب الرهان في الجبهة التي فتحتها الدولة ضد الجهل والأمية في ربوع المملكة. عندما تأملت في الملف، وعشت بعضا من تفاصيله بشكل مباشر من خلال أساتذة أجلاء يمثلون هذه الشريحة، أدركت إلى أي مدى أهينت كرامة رجال التعليم في هذا الوطن، والغريب في الأمر أن يعترف جميع مسوؤلي القطاع بما لحق هذه الفئة من ظلم، ولئن رمنا الاستدلال على هذا النوع من الاعتراف، لأشرنا إلى العبارة التي تفاعل بها الوزير السابق "محمد الوفا "مع الملف، فقد وصف التلاعب الحاصل على مستواه بكونه "منكرا"، ألم يحن أوان تغيير هذا المنكر بعد؟ المنكر يجب أن تهب الدولة لتغييره وإعادة الحقوق لأصحابها، فدفع الضرر هنا مقدم على كل شيء، وإلا فمستويات تغيير المنكر لم تستنفذ بعد، وربما عانق الضحايا المستوى الثالث في ظل التسويف والتلاعب الذي طال أشواط هذا الملف . يعترف أغلب "الضحايا "بأن الوزير السابق" محمد الوفا " كان في مستوى الجدية التامة في التعامل مع هذا الملف، لكن رياح الشؤم والعبث السياسي اللئيم، عصفت بالنسخة الأولى للحكومة، فكان انعكاس ذلك على مستقبل الملف واضحا، خاصة بعد تولي وزير" آخر" مسؤولية القطاع، ومع ذلك استمرت جذوة النضال، وزاد إشعاعها فارتفع منسوب إحراجها للمسؤولين، أتذكر أنني وجهت سؤالا لرئيس الحكومة بخصوص هذا الملف، وكان جوابه واضحا وهو من جنس جواب محمد الوفا، فرئيس الحكومة لم يخف تعاطفه واعترافه بما لحق هؤلاء من ظلم، بل أبان عن استعداد تام للحيلولة دون أن يستمر هذا "الإرث السلبي "، فلقد أصبح عالة لا تحتمل، بل إنه كشف لي- حينها- عن لقاء سيكون في غضون أيام بين "اللجنة الوزارية " التي تمثل القطاع وموفدين عن" رئاسة الحكومة ". كانت الأخبار حينها تتواتر وتتوافد من هنا وهناك، وكلها تزكي بالفعل كلام "السيد رئيس الحكومة "، فكان الجميع يستبشر خيرا بقرب الانفراج، إلا أنه وفي مشهد درامي، دخل الملف بقدرة قادر مرحلة "العناية المركزة" فكانت الأخبار الواردة حينها تفيد بكون بعض النقابات تسعى لعرقلة الملف بعد طرحها القاضي بضرورة حل الملف بشكل ("شمولي ").هذه الكلمة الأخيرة قابلة لقراءات متعددة وتأويلات مختلفة، الشيء الذي أضفى طابع الغموض على الملف بعد تدخل النقابات واختلافها في طرحها للتعامل مع الملف، و مع انتخابات السابع من اكتوبر عاش الملف أسوأ أيامه، وهكذا تزايد منسوب الغموض مع لحظة الفراغ التي يعيشها الوطن على مستوى السلطة التنفيذية، فتأخير تشكيل الحكومة وانشغالات الدولة بالحدث العالمي البيئي الذي كان في مراكش( الكوب 22) ساهم في تغيير وجهة النضال والاحتجاج، من يدري؟ فربما إحراج الدولة أمام الضيوف قد يأتي أكله، وهذا بالفعل ما كان، فعاشت مراكش على إيقاعات مختلفة، مراكش" البيئة "الذي ملأ واجهة الدولة وإعلامها المهلوس بحبوب البيئة، ومراكش" النضال" الذي كان على صفيح ساخن وأجواء احتجاجية حارة- ( ربما هذه الحرارة هي التي جعلت جون كيري وزير خارجية أوباما يقع في المحظور الذي دخل حيز التنفيذ قانونيا مع شعار" زيرو ميكا" )- حيث تجدد لقاء الأساتذة بتلاميذهم في مشهد يعكس أن الاعطاب من جنس قطاع التربية الوطنية، وإلا فما دلالة أن يلتقي الأساتذة ضحايا النظامين بأبنائهم " الأساتذة المتدربين "الذين كانوا إلى عهد قريب تلاميذ في الحجرات الدراسية التي كانوا وما يزالون فاعلين بها؟ صحيح أن الملف يتم التداول فيه والحوار بشأنه، وهذا ما يجسده البيان الأخير الذي جمع النقابات بالوزارة المعنية، إلا أن الحل الذي تمخض عنه - بحسب الضحايا- لا يعدو أن يكون مجرد جبل تمخض عن فأرة ؟؟؟، لأن ما قدم كحل، وليس حلا، فهو من قبيل البريكولاج الذي يبقي على الأزمة بالتركيز على العرض دون الجوهر، فأي منطق هذا أن تعترف بالظلم الذي لحقني جراء تهورك وارتجاليتك وتحاول أن ترفع عني الحيف بطريقة مخزية فيها تواطؤ مباشر معي ضدا على ذاتي.!؟ إن هذا الملف وصمة عار حقيقية على الدولة ومؤسساتها، ويزداد هذا العار حدة فيبدو في صورة بشعة مع الاعتراف الصريح والضمني بهذا العار دون أن يجد هذا الملف طريقه إلى الحل، لذلك أعتقد أن إرادة الدولة يجب أن تكون مثمرة لاستئصال هذا العار الذي عمر طويلا، وفي هذا الإطار، لابد من الخروج من مستوى القول الذي لا يفيد إلى مستوى الفعل الذي يثمر ويجيد، فيجدي في بلورة "حل جذري" كما قال لي يوما بعض المسؤولين، فالبحث عن حلول حقيقية تعيد رسم البسمة والأمل في وجوه أصابها غبن شديد جراء ما تعرضت له من ظلم طافح، أصبح واجبا، وأتمنى أن تكون الوقفة المزمع تنظيمها مطلع الشهر المقبل بداية النهاية للوصمة الذنيئة التي علقت بجبين الدولة منذ سنوات خلت، واتمنى حقيقة أن تكون الوقفة الاحتجاجية المقبلة بطعم "الإنذار الأحمر"، الذي يجعل الدولة ومؤسساتها المحايثة لاتتعامل مع الملف كالنفخة في الرماد أو الصيحة في الواد، لأن مؤذن مالطا هذه المرة لن يصدق فيه القول: لا منكرا أناح ولا بحة أراح، ووراء الأكمة ما وراءها، وقد أعذر من أنذر.