على هامش الهامش يرقد مغرب بائس،مغرب يئن تحت جراحه المتعددة ،مغرب يسكن آلامه وأوجاعه،مغرب يسكنه الفقر والتهميش ،مغرب مستودع لجميع أشكال الهشاشة والإقصاء،وتحت جلده يستوطن جيش من الجياع والمحرومين ،وفي جوفه يصوم وينتظر- ما أتعسنا ونحن ننتظر – آلاف من العاطلين المحترفين، وفئات واسعة ترزح تحت رحمة الفقر المدقع وتنام على البؤس وتستيقظ عليه، وتجاور الموت. في ما مضى، كان الكلام عن "بلاد السيبة" و"بلاد المخزن " وبعد أن رحبنا أو للوضوح والدقة ،(هُمْ) من رحبوا بدولة فرنسا الإستعمارية ،أو الأصح والأدق وقعنا(هُمْ) معاهدة للحماية الفرنسية لنا(لَهُمْ) – لا أدري مما ومِمَّنْ كانت تحمينا (هم)أمنا(هم) فرنسا – ؟ الأرجح أنها كانت تحمينا(هم) من أنفسنا ومن الإقتتال فيما بيننا نحن اللامتحضرين .وهكذا أعادت فرنسا تقسيمنا إلى مغربين :"المغرب النافع" و"المغرب غير النافع" .قلنا آنذاك لا يهم فهذا التقسيم استعماري ،مجحف وغير عادل وبالتالي قائم على نظرة كولونيالية ولأجل مصلحة أمنا(هم) فرنسا ولا علاقة له بالوطن وبالوطنية،لا بأس فلننتظر حتى نتحرر ونستقل وإذاك سنسوي كل شيء فيما بيننا(نحن وهُمْ) ،حتى نصبح مغربا واحدا ،بجسم واحد، ونمشي بسرعة واحدة نحو المستقبل كرجل واحد ،وسوف نبقى على العهد ونسير على نفس الطريق التي ستصبح معبدة بالحرير ومفروشة بالورود .لكن الأمر لم يكن كذلك إذ بعد إستقلالنا ارتأينا أو للدقة ،هُمْ مَنْ ارتؤوا، أن يعيدوا النظر في ما ورثناه عن عهد الحماية، فاجتهدوا واستعانوا بمكاتب الدراسات والخبراء الأوربيين وأعادوا التصنيف وهكذا أصبح لنا مرة ثالثة تقسيما آخرا ومغربين: "المغرب الحي" و"المغرب الميت" ، "مغرب الطيارة" و"مغرب الحمارة "،مغرب الترام واي tramway " و"مغرب التراب واي" trabway. . في المغرب هناك ما يسمى بالمركز وما يسمى بالهامش، وهناك أيضا هامش على الهامش، أكيد أن هذه الهوامش ليست بقلب المغرب لكن هي أطرافه. وبمنطق العقل الحسابي الضيق والبليد ،هذه الهوامش، ليست الرباط عاصمة وسياسة المغرب، وليست الدارالبيضاء صناعة وتجارة المغرب، وليست طنجة وجه وبوابة المغرب، وليست أكادير فلاحة المغرب،وليست مراكش سياحة المغرب ،وليست فاس أولغارشية المغرب . ربما، بل الأكيد ودون أدنى شك، أن في عقول العديد من ساستنا: هذه المناطق المهمشة مازالت بلاد للسيبة.ومختبرات لجميع أشكال الفشل و مستودعات للأصوات الإنتخابية التي لا تنضب. موت نسوة فضيحة بكل المقاييس،بل جريمة سياسية موصوفة.هل كان لابد لنا أن ننتظر حتى يسرق منا الموت نسوتنا في تدافع تراجيدي حتى نكتشف مدى هشاشتنا وحتى نفهم أن دولتنا الحديثة لا تمتلك أدرعا أو دفء كي تحتضن أبناءها الضائعين ؟. هي فاجعة من العيار الثقيل ، هي صورة أخرى غير مشرفة لنا تنضاف إلى ألبومنا البئيس، هي حادثة أخرى مسيئة إلينا تحدث، هي كارثة أخرى مخجلة لنا تقع،هي مهزلة من مهازلنا تطفو فوق السطح. نحن جغرافية البؤس ،نحن تضاريس الفواجع ،كم من خريطة للنسيان تنقصنا كي نسهو ونصبر عن انكساراتنا ونضمد جراحنا ؟.هي مأساة تسائل نموذجنا وحداثتنا. أين الدولة ؟ فائض من الوعود منها قصيرة المدى ومنها بعيدة المدى.أين يد الدولة ؟ أين أثر الدولة ؟ أين ظل الدولة ؟ أين عيونها التي لا تنام ؟ لماذا خفتت وخفقت ؟ لماذا لم تعد تلتفت إلينا ؟ بأي وجه قبيح تنظر إلينا ؟ أي قناع ستضعه على وجهها(إن كان لها من وجه) بعد اليوم ؟ من تخلى عن هؤلاء ؟ من سلب منهم ابتسامتهم دون خجل ؟ من سرق منهم آمالهم ومستقبلهم دون تردد ؟ من أخذ منهم حياتهم دون حساب ؟.لماذا لا يمنح لهؤلاء إلا الحد الأدنى من الانتماء للوطن ؟. هم أناس يسكنون اللاوطن ،هم الهامش ، هم المقصيون، هم مواطنون من الدرجة صفر، هم مواطنون مع وقف التنفيذ أو إلى أجل غير معلوم .ما أقسى دولة لا تمتلك آذانا صاغية كي تستمع إلى آلام وأوجاع مواطنيها،وتمتلك فقط عيونا لتراقب تحركاتهم .ما أتعسنا، ما أقبحنا، أي قارة تتسع لمآسينا ؟ كم من أكفان تكفينا لنغطي جروحنا ؟ كم من أشجار التوت تنقصنا لستر عوراتنا ؟ ما أبشعنا حين لا تحضرنا إنسانيتنا . دولة لا تمتلك أي برنامج لبواديها ولقراها. بوادي وقرى أهملتها الدولة فاستوطنها البؤس واليأس وعَمَّرَتْها الهشاشة وجاورها الموت. أي مقبرة تتسع لدفن عارنا ؟ أي أوهام ووعود قابلة للسكن بعد اليوم ، بعد أن استهلكنا جميع برامج السفاهة والرداءة والتسويف والفشل ؟ لقد ركبنا الألم الفائق السرعة .الظاهر والبادي أن بوادينا وقرانا لا تعدو أن تكون سوى محطات للنهايات المؤلمة والمفزعة. قمر اصطناعي في السماء وثقوب سوداء في الوطن . إن شاء الله، قريبا سنمتلك من التقنيات العالية والحديثة جدا، قطارا "فائق السرعة "، سيربط طنجةبالدارالبيضاء وربما مستقبلا بمراكش .وهناك في المغرب الآخر،المغرب المقصي، المغرب العميق،مغرب الهوامش والحواشي، قطار واقف ينتظر- ما أقسى الانتظار- .قاطرته غضب وعرباته: بؤس ويأس وحرمان وإقصاء وأمية وجهل وهشاشة وبطالة وفقر، وسِكَّتُهُ حب الوطن.فرجاءا لا تُصِرّوا على أن يمشي هذا الوطن بِرِجْلٍ واحدة حتى لا يتحول بعد غد إلى زَحّافٍ.