أتذكر كما يتذكر الكثيرون ربما من أبناء أمتنا الحملة الهائجة التي ووجه بها الشيخ يوسف القرضاوي وجماعته الإخوان المسلمين، وكيل التهم التي تلقاها الرجل بسبب العديد من اجتهاداته الفقهية وآرائه الشرعية، ومواقفه الفكرية. ولعل من أبرز التيارات التي هاجمته بشراسة تلك التي تنتمي لما يسمى بالتيار السلفي، خصوصا علماء السعودية الذين جعلوا من أنفسهم قوات مسلحة تتصدى لأي اجتهاد يخالف مذهبهم، حتى أنهم منعوا كتب الرجل فيما أذكر من دخول السعودية، وحتى أن الرجل تلقى منهم ما لم يتلقاه إبليس من رجم ولعن. ولئن كنا اليوم أمام وضع جديد وحقائق مستجدة، فقد تعرت تبعية هؤلاء للأنظمة كما في كثير من البلدان العربية وانكشف دورهم في خدمة قيم العبودية للحاكم تحث ذريعة الطاعة لولي الأمر (الواجبة، حتى لو ضربك على ظهرك وأخذ مالك )، وهاهم اليوم بينما يسكتون على الحصار الظالم على جارة عضوة في مجلس التعاون الخليجي، كما أطبقوا شفاههم ولم ينطق أيهم منبها أو ناصحا ولي النعم والأمر بعد استهداف العلماء والصحفيين والقضاة، واعتقالهم لأسباب تبقى مجهولة لحد الآن، غير ما أشارت إليه بعض المصادر من تعاطف هؤلاء مع جماعة الإخوان المسلمين، وتشابه مواقفهم حول عدد من القضايا،، أذكر أن كتابه الفقهي "الحلال والحرام"، منع من طرف السلفيين وتم تحريم اقتنائه فضلا عن اعتماده كمرجع فقهي يستدل به، كانوا يتهمون الرجل بالزندقة والفسوق والجهل، وأقل تلك التهم دناءة وتجريحا كانت من طرف المؤدبين الذين اعتبروه فقيه رخص وتيسير، عابوا عليه تساهله إلى أبعد الحدود. اليوم نفس الجيش الذي نصب نفسه حاميا لآراء فقهية متآكلة، ينقلب مائة وثمانين درجة وينحني صاغرا أمام قرار سياسي "للدب الداشر"، كما أصبح يعرف في السوشيال ميديا، وكما أطلق عليه معارضوه، بعد أن سمح للمرأة بالسياقة وأصدر فتوى سياسية فجأة أمام ذهول جميع التيارات والأطياف،،الشيخ يوسف القرضاوي، كان سباقا لمراسلة الملك السعودي الراحل عبد الله بن عبد العزيز سنة 2011، دعاه فيها إلى السماح للمرأة السعودية بقيادة السيارة.كما شكره في رسالته على تصريحاته بشأن المرأة السعودية وتمكينها من المشاركة في مجلس الشورى "إني إذ أبعث إليكم بتهنئتي هذه وتعبيري عن مدى فرحي وتقديري لتصريحاتكم وقراراتكم، لأرجو من الله أن يكون خير البلاد والعباد على أيديكم، وأن يتم في بلدكم العزيز السماح للمرأة المسلمة بمزاولة القيادة واستقلال السيارة بالضوابط الشرعية كغيرها في بلاد المسلمين". وأضاف "يا جلالة الملك إن الحرام ما حرمه الله في كتابه، أو على لسان نبيه نصا صريحا، والحلال كذلك، والأصل في الأشياء أنها حلال ما لم يرد إلينا نص صريح بتحريمه، وقد فتح الله على المسلمين، وأحل الله لهم ما لم يحله للأمم السابقة".الشيخ يوسف القرضاوي، حينها تعرض لهجوم أهوج من كتائبالفقهاء الذين قادواحملة رفض شديدة للعديد من اجتهادات الرجل وآرائه الفقهية،بما فيهم أعضاء هيئة كبار العلماء الذين اعتبروا رسالته تطاولا على اختصاصهم وعلى المملكة، حتى قال قائلهم: "أحجروا عليه ولا تأخذوا من علمه شيئا مادام وصل لهذا الحد من الجهل..". فما الذي جرى اليوم حتى سارعوا صاغرين إلى مباركة قرار "الدب الداشر"،الأمر الذي جعلهم مثار سخرية واستهزاء من قبل العلماء المختصين والعامة على حد سواء، وما الذي تغير؟بقليل تأمل وربط الأحداث ببعضهاوبالنظر إلى الوقائع المتسارعة التي عرفتها منطقة الشرق الأوسط، سيتم استنتاج أن هناك انقلابا شاملايتم تنفيذه عبر مراحل، أصابع الاتهام تشير فيه إلى وجود بصمة"العم ترامب" الذي يشرف على مخطط يجعل من المملكة العربية السعودية قاعدة لإعادة تفتيت المنطقة وهيكلتها بما يتناسب مع مصالح الدولة القوية، والتمهيد لإعادة تهييئ المنطقة لمرحلة لاحقة، باستهداف العلماء والدعاة وإضعاف محور الاعتدال وكل من يقف منتبها لمخططات تعتبر مرعبة. السعودية اليوم فعلت ما فعله السيسي في مصر بتكرار السيناريو السيساوي غير أنه في السعودية وبشكل مفاجئ تم استهداف العلماء والمشايخ والصحفيين الذين ربما ذنبهم الوحيد أنهم لم يعلنوا تأييدهم المطلقلابن سلمان خصوصا فيما يتعلق بموضوع حصار قطر، ولم يرفعوا أيديهم مصفقين على الإنجازات العظيمة التي دشنها "الدب الداشر"، وحتى أنهم لم يتورطوا في صدامات أو مواجهات مباشرة كما حصل في مصر، التي أجهز فيها العسكر على جماعة الإخوان وزج بأعضائها ومن وجد فيهم شيئا من ريحها في السجون بتهم جاهزة وملفقة من قبيل استعمال العنف أو الدعوة إليه أوبالقتل،،، ففي السعودية تم اعتقالهم بسرعة وعلى حين غرة، ودون أن يتجرأ الإعلام السعودي على الاقتراب من الموضوع أو حتى الإشارة إليه، بينما سارع إلى الإشادة بقرارات ولي العهد الجديد خوفا وطمعا. وبالعودة إلى موضوعنا الرئيس، فإن قرار السماح للمرأة بسياقة سيارتها، "برأينا" بالرغم من أنه يعتبر قرارا جريئا ستكون له إيجابيات اقتصادية وفوائد اجتماعية ستستفيد منه المملكة على المدى الطويل، فقد ظهرت بعض الدراسات التي تشير إلى أن المملكة العربية السعودية ستتخلص من نفقات مالية تزيد على الخمسة وعشرين مليار ريال سنويا تشمل أجور السائقين الأجانب الذين يقدر عددهم بحوالي مليوني سائق، إضافة إلى الفوائد الأخرى المرتبطة بالأسرة السعودية وبالمرأة ذاتها، فلا يعقل أن تمنع من سياقة السيارة من باب سد الذرائع بينما يسمح لها بمرافقة سائق أجنبي عنها بحكم الشريعة والاختلاء به بلا حرج، أو المكوث في الاعتقال البيتي إلى أن يتفضل الزوج بفك العزلة عنها ومرافقتها تحت كفالته إلى السوق أو زيارة العائلة حينما يشاء. فإنه جاء متأخراوبلا سياق موضوعي يفرض طرح مثل هذه المواضيع التي لا تعتبر ملحة أو ذات أولوية تحتاج إلى تقديم النقاش حولها، كما لم تدع إليه حاجة مجتمعية ماسة، فالمملكة تخوض حربا مكلفة في الجارة الجنوبية "اليمن" ضد الحوتيين الذين استطاعوا توريط آل سلمان في معركة لم يستعدوا لها بما يكفي، وما لبثوا أن تورطواأيضا في معركة غير محسوبة العواقب مع الجارة الصغيرة قطر، ظناأن الجولة فيها ستكون قصيرة، فإذا بالعجلاتالمتأذية أصلا تغرق في رمالها. اليوم نمر من مرحلة حرجة جدا ليس واردا أنها ستنفرج عما قريب، خصوصا أن المال الإماراتي والسعودي ما زال يسيل بكرم لفائدة الذين يقفون في جبهة المحاربين لتيار الممانعة ممنتفرغوا لمواجهة الحركات الإسلامية ومحاصرة رجالاتها، والإشراف على إعادة رموز الأنظمة السابقة إلى كراسي السلطة كما جرى في مصر من قبل وكما يجري العمل عليه في ليبيا وسوريا، وكما تحاول دول الحصار تنفيذه في قطر. فهل سيعترف هؤلاء للعلامة يوسف برجاحة فكره وسلامة رأيه عوض وضع إسمه ضمن قائمة الإرهاب،بعد أن كان سباقا إلى المطالبة بالعديد من الإصلاحات، كما كان الأسبق إلى اقتراح العديد من الأفكار والآراء الشجاعة والجريئة؟؟