إن الله رفع من شأن العلماء و جعلهم ورثة أنبيائه و أصفيائه،و حملهم أمانة عظيمة و أخذ عليهم الميثاق لتبصير الناس و تعليمهم أمور دينهم وجعلهم مرجع الناس في هذا، بل تعبد الناس بالرجوع إليهم في كل ما يجهلون من أمور دينهم قال تعالى (فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون ) ؛لذلك كان لزاما على العلماء الحذر من الزلات التي تسقط علمهم أو عدالتهم أوتنفرالناس منهم وتزهدهم فيهم ، وقد قيل: (زلة العالم مضروب لها الطبل)، فالجاهل زلاته تغمر و تستر ولا يطلع عليها الا آحاد الناس ، وأما العالم إذا زل زلة فإنها تبلغ الآفاق و يفتضح بها بين الناس ويشهر به، و المصيبة أن يزل العالم زلة علمية فتكون فتنة للناس تضرهم في دينهم أو تلبس لهم الحق بالباطل . قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه: (ثلاث يهدمن الدين: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن , وأئمة مضلون) .رواه ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم وفضله)) (2/223). لذلك فزلة العالم وخاصة إذا كان مرجعا ورأسا كبيرا يرجع اليه الناس في قطر من الأقطار تكون فتنة. عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ويل للأتباع من عثرات العالم، قيل: كيف ذلك؟ قال: يقول العالم شيئاً برأيه، ثم يجد من هو أعلم برسول الله صلى الله عليه وسلم منه؛ فيترك قوله ذلك، ثم يمضي الأتباع)رواه ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم)) (1873). و قال سلمان الفارسي رضي الله عنه: ((كيف أنتم عند ثلاث: زلة عالم، وجدال منافق بالقرآن، ودنيا تقطع أعناقكم، فأما زلة العالم، فإن اهتدى؛ فلا تقلدوه دينكم، تقولون نصنع مثل ما يصنع فلان، وننتهي عما ينتهي عنه فلان، وأن أخطأ؛ فلا تقطعوا إياسكم منه، فتعينوا عليه الشيطان)) الحديث((جامع بيان العلم)) (2/226). وكان معاذ بن جبل رضي الله عنه يقول في خطبته كثيراً: (وإياكم وزيغة الحكيم؛ فإن الشيطان قد يتكلم على لسان الحكيم بكلمة الضلالة، وقد يقول المنافق الحق، فتلقوا الحق عمن جاء به؛ فإن على الحق نوراً، قالوا: وكيف زيغة الحكيم؟، قال: هي كلمة تروعكم وتنكرونها، وتقولون: ما هذه؟ فاحذروا زيغته، ولا تصدنكم عنه؛ فإنه يوشك أن يفيء، وأن يراجع الحق) رواه ابن عبد البر في ((جامع بيان العلم)) (2/224). ومن تبعات زلة العالم أن يختلف الناس ويتهارشوا و تتفرق كلمتهم وخاصة إذا كانت زلة العالم في أمر كبير أو نازلة تهم شأن الناس العام . و الناس عندها يكونون في الغالب ثلاثة أصناف: - صنف لا يرى أن هذا العالم قد زل ، فتعظيمه وإجلاله له يجعله يراه على صواب بل قد يجعل من سيئاته حسنات،وقد قيل: (حبك الشيء يعمي ويصم)، ولا شك أن هذا الصنف تكون زلة العالم له فتنة ، والله وإن تعبدنا بسؤال أهل العلم إلا أنه لم يعصمهم وجوز عليهم الخطأ والزلل و لم نؤمر باتباع أحد على كل أحواله إلا نبينا محمد صلى الله عليه وسلم. وقد حذر السلف من اتباع العلماء في زلاتهم. قال ابن مسعود رضي الله عنه: (ألا لا يقلدن أحدكم دينه رجلاً، إن آمن آمن، وإن كفر كفر، فإنه لا أسوة في الشر)((جامع بيان العلم)) (2/229). وقال الإمام أحمد رحمه الله: (لا تقلد دينك الرجال، فإنهم لن يسلموا من أن يغلطوا). قال ابن القيم: (اتخاذ أقوال رجل بعينه بمنزلة نصوص الشارع لا يلتفت إلى قول من سواه, بل ولا إلى نصوص الشارع إلا إذا وافقت نصوص قوله، فهذا والله هو الذي أجمعت الأمة على أنه محرم في دين الله، ولم يظهر في الأمة إلا بعد انقراض القرون الفاضلة)((إعلام الموقعين)) (2/191، 214، 221). وقال ابن المبارك رحمه الله لمن ناظره من أهل الكوفة في النبيذ المختلف فيه لما احتجوا بأسماء بعض أهل العلم: (فقلت لهم: دعوا عند الاحتجاج تسمية الرجال؛ فرب رجل في الإسلام مناقبه كذا وكذا، وعسى أن يكون منه زلة، أفلأحد أن يحتج بها؟)((السنن الكبرى للبيهقي)) (1/298). - وصنف ثان متسرع نزق يسقط ذلك العالم لمجرد تلك الزلة فينسفه و ينفي عنه كل سابقة في الخير فلا يرى له حسنة إطلاقاً. وقد عانى العلماء قديماً وحديثاً من هذا الصنف المتربص الجاحد الظالم: قال داود بن يزيد: سمعت الشعبي يقول: (والله لو أصبت تسعاً وتسعين مرة، وأخطأت مرة؛ لأعدوا علي تلك الواحدة) ((سير أعلام النبلاء)) (4/308). وقال محمد بن سيرين: (ظلم لأخيك أن تذكر منه أسوأ ما تعلم، وتكتم خيره)((البداية والنهاية)) (9/275). - وصنف ثالث موفق أرشده الله وسدده ؛علم أن هذا العالم زل وأن ذلك جائز عليه وعلى غيره من أهل العلم مهما علا كعبهم في العلم والفضل ، فلم يتابعه في زلته وتحرى الحق والصواب فلزمه ؛ ثم حفظ للعالم قدره وفضله و أدى ما له عليه من حق النصح و التذكير إن استطاع إلى ذلك سبيلا ، ونصح لسائر الناس في بيان خطئه وحذرهم من زلته . قال أبو هلال العسكري رحمه الله: (ولا يضع من العالم الذي برع في علمه زلة، إن كانت على سبيل السهو والإغفال؛ فإن لم يعر من الخطإ إلا من عصم الله جل ذكره، وقد قالت الحكماء: (الفاضل من عدت سقطاته)، وليتنا أدركنا بعض صوابهم, أو كنا ممن يميز خطأهم).((شرح ما يقع فيه التصحيف)) (ص: 6). وقال ابن الأثير – رحمه الله -: (وإنما السيد من عدت سقطاته، وأخذت غلطاته، فهي الدنيا لا يكمل بها شيء، وقد صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((حق على الله ألا يرفع شيئاً من الدنيا إلا وضعه))رواه البخاري (6501). من حديث أنس رضي الله عنه. و قال شيخ الإسلام -رحمه الله-: (ومما يتعلق بهذا الباب أن يعلم أن الرجل العظيم في العلم والدين من الصحابة والتابعين ومن بعدهم إلى يوم القيامة.. أهل البيت وغيرهم قد يحصل منه نوع من الاجتهاد مقروناً بالظن ونوع من الهوى الخفي فيحصل بسبب ذلك ما لا ينبغي اتباعه فيه وإن كان من أولياء الله المتقين . ومثل هذا إذا وقع يصير فتنة لطائفتين: طائفة تعظمه فتريد تصويب ذلك الفعل واتباعه عليه... وطائفة تذمه فتجعل ذلك قادحاً في ولايته وتقواه. بل في بره وكونه من أهل الجنة بل في إيمانه حتى تخرجه عن الإيمان وكلا هذين الطرفين فاسد. والخوارج والروافض وغيرهم من ذوي الأهواء دخل عليهم الداخل من هذا. ومن سلك طريق الاعتدال عظم من يستحق التعظيم وأحبه ووالاه وأعطى الحق حقه. فيعظم الحق ويرحم الخلق ويعلم أن الرجل الواحد تكون له حسنات وسيئات فيحمد ويذم ويثاب ويعاقب ويحب من وجه، ويبغض من وجه. هذا هو مذهب أهل السنة والجماعة خلافاً للخوارج والمعتزلة ومن وافقهم)(((منهاج السنة)) (4/543-544). وقال أيضاً رحمه الله: (وليس لأحد أن يتبع زلات العلماء، كما ليس له أن يتكلم في أهل العلم والإيمان إلا بما هم له أهل، فإن الله تعالى عفا للمؤمنين عما أخطأوا، كما قال تعالى: رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا [ البقرة: 286]. قال الله: ((قد فعلت)) وأمرنا أن نتبع ما أنزل إلينا من ربنا ولا نتبع من دونه أولياء، وأمرنا أن لا نطيع مخلوقاً في معصية الخالق، ونستغفر لإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، فنقول: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [ الحشر: 10]. وهذا أمر واجب على المسلمين في كل ما كان يشبه هذا من الأمور، ونعظم أمره تعالى بالطاعة لله ورسوله، ونرعى حقوق المسلمين، لاسيما أهل العلم منهم، كما أمر الله ورسوله، ومن عدل عن هذه الطريق فقد عدل عن اتباع الحجة إلى اتباع الهوى في التقليد، وآذى المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا، فهو من الظالمين، ومن عظم حرمات الله، وأحسن إلى عباد الله، كان من أولياء الله المتقين، والله سبحانه أعلم) ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (32/239، 4/195) و((اقتضاء الصراط المستقيم)) (2/580). أسأل الله العليم الحكيم أن يجعل هذه الكلمات إضاءات في ظل هذه المدلهمات التي تمر منها بلادنا في هذه الأيام وأن ينفع بها عباده.