إن ارتباط مفهوم الفن اليوم باللهو واللعب والمجون يعد ظلما في حقه و اعتداءا على تاريخه و سلبا لمضامينه، التي لطالما كانت لها صورة مضيئة من تاريخنا الحضاري الاسلامي و الانساني ، فالعمل الفني يمثل منذ أقدم العصور شكلا من أشكال التحضر والرقي ، و أداة للتعبيرعن الجوانب الجمالية والمواهب الابداعية الكامنة في الفطرة الانسانية. إلا أن الحاصل اليوم هو ربط الفن بالأغاني الهابطة والمسرحيات الساقطة و أفلام العري و العنف و صور العبث واللا معنى … فيتشكل الذوق البهيمي و يأخذ في التسامق حتى يغدو معيارا للفن بهيئة هجينة ممسوخة كتلك العجوز الشمطاء التي زارت طنجة قبل أيام … و لم يكن ذكري لها عبثا أو خروجا عن موضوعنا. فمما يجب الاشارة اليه ههنا أن هذه السيدة وأمثالها من الحاملين للفكر العلماني الهدمي دورهم الأساس يتمثل في إعداد بيئة متغربة تشكل مرتعا ميسرا لاستهلاك بضاعة هذا الفن العفن وسط البلاد العربية و الاسلامية، تحت مسميات براقة و تعابير حمالة أوجه كوجوب التفاعل مع ثقافات العالم ،والاستفادة من أساليب الابداع الانساني، و ضرورة الانفتاح و غيرها … فأي انفتاح يقصد هؤلاء ؟ ! إنه لا غرض لهم من الانفتاح سوى الانفساخ و التحلل من الأخلاق و القيم و الابتعاد عن معينهما و نبذ موردهما . إن هذه الجماعة – جماعة الأمر بالمنكر و النهي عن المعروف كما يسميها الدكتور أحمد الريسوني – لأشد خطرا على المجتمع من عدو ظاهر و غزو قاهر و جند متسلط !! إن خطرههم يتمثل في كونهم يعيشون بين أظهرنا، و يأكلون من خيراتنا، و يستنشقون هواءنا، و يتزوجون نساءنا، ويلدون أطفالنا، و يدرسون أبنائنا … نجدهم في كل مكان !! إنهم في الجامعة ، في الحافلة ، في المقهى ، بين ثنايا الجرائد ، على أمواج الإذاعة ، خلف شاشات التلفاز ، في الإعلانات التجارية ، في مفاصل الدولة ، في مفاصل القضاء ، في مفاصل المؤسسات العمومية … بقي لهم مفاصل عظامنا فقط !! ومن بين أسباب شيوع فن الفتنة كذلك إضافة إلى ما سبق، الهجمة الحضارية الغربية المتوسلة بأحدث وسائل الاتصال و التكنولوجيا و نظام المعلومات و المعارف المتحيزة الموجهة إلى مختلف شرائح المجتمع … لكن من بين الأسباب هناك سبب يتغافل عنه كثير من الاسلاميين اليوم الذين يبدون امتعاضهم و استنكارهم للحالة المزرية التي وصل لها العمل الفني في عالمنا العربي .. و هو سبب ذاتي يتمثل في تقوقع و انحسار التيار الاسلامي في طريقة تعامله مع هذا المجال و دورانه في دائرة التحريم و التضييق و المنع والنهي و التحذير و عدم انخراطه الفعلي في هذا الحيز الذي يعتبر من أهم ساحات التدافع الثقافي و مجالات غرس القيم ، و التي يستغلها تيار الفن المفتون في الزحف و التقدم و اكتساح المواقع الجماهيرية و اختراق الحصون الأخلاقية و القيمية للشعوب و السيطرة على الذوق المجتمعي العام و الحرص على عدم تشكله بصفة سليمة و صحيحة. إن جنوح التيار الأول إلى التحريم و التسفيه " حتى ليبدو كل خيط جمالي محرك للوجدان و مفعل لقوى المجتمع ضربا من ضروب اللهو و العربدة الحرام ، و حتى لتتردى الاهتمامات إلى مستوى البحث عن حكم الضرب بالدف !! " (1) في حين أن التيار الثاني قطع أشواطا كبيرة جدا في وضع استراتيجيات الاختراق و تنزيلها و دراسة الخطوات التي تليها مستفيدا من كل الامكانيات المتاحة و غير المتاحة ، المشروعة وغير المشروعة منها .. لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يبقى الوضع هكذا و نبقى متفرجين في عمليات الهدم و النسف للمجتمع المغربي المحافظ من مدخل الفن الذي هو أكثر المداخل تأثيرا على الانسان لأنه يلمس الجانب الروحي و العاطفي منه " و يجعله يتجاوب مع نفسه و يشعر في ضلالها بالرضا و النعيم (…) و يحس بالراحة و يتخفف من أعباء ثقال " (2) …جيد . ما دام الأمر هكذا ، فلماذا نحن مترددين في اقتحام هذا المجال ؟ ! و قبل ذلك .. ما موقف الإسلام منه ؟ ! وهل نجد شيءا من الفن في الثرات الاسلامي ؟ ! …. ( يتبع ) ——————————————- (1) : أحمد رزيق " مجلة الفرقان " – ع 64 – ص 16. (2) : محمد الغزالي " مشكلات في طريق الحياة الاسلامية – ص 274.