إن للعالم الثالث اليوم أيديولوجية واحدة يتمسك بها أيما تمسك ويتشبث بها أيما تشبث، إنها أيديولوجية الاستهلاك، هذه الأيديولوجية لم تأت هكذا عبثًا، بل هي وليدة الاستعمار والإمبريالية اللذين تعيشهما هذه الشعوب المضطهدة، وفي الحقيقة عندما تعمق التفكير في شعور أفراد هذه المجتمعات تجد أن الفرد عندنا يحس خلاف ما يعيش، بحيث يتوهم أنه يعيش السعادة والترف والحرية، ولكنه في الحقيقة يعيش تشبهًا وتبعية وتقليدًا، وحالة مستفحلة من التبلد وحالة تتجاوز القهر حيث بلغ الأمر مرحلة لا يحس فيها المقهور بالقهر الذي يعيشه، وحتى من أحس بذلك يخاف من إظهاره بقدر خوفه من الهزيمة لأن الجميع في سباق تنافس على الاستهلاكية. إن العصرنة بمعناها الممارس يعني الظهور بمظهر عصري يحتاج إلى شرطين فقط؛ الأول انعدام الشخصية، وهو الأمر الذي تعيشه مجتمعاتنا بشكل مطلق، بحيث تجد الفرد لا يعرف أصله ولا فصله، شخصية فارغة لا رؤية لها ولا هدف ولا رسالة غير الاستهلاك والاستهلاكية فقط، كل حديث الجميع عن آخر موديل في اللباس الفلاني والسيارة الفلانية، الشرط الثاني الذي تحتاجه العصرنة هو المال، فبالمال أستطيع أن أشتري كل شيء وأغير كل ملامحي في ظرف ساعة أو أقل، وأنتقل من إنسان نصف بدائي إلى عصري تمامًا. لكن هناك فرقًا كبيرًا بين العصرنة والتحضر، فالعصرنة لا تتطلب غير الشخصية الفارغة والمال فقط، لكن التحضر وتحويل الشخص إلى إنسان متحضر يحتاج إلى الكثير، كتغيير أيديولوجية الاستهلاك إلى أيديولوجية الأفكار والخطط والمشروعات والعمل والتضحية والتحمل والصبر والألم، وتغيير في الأصول والمبادئ الاجتماعية وثورة فكرية وعقائدية وتغيير للقيم والمبادئ والوصول إلى رؤية كونية منفتحة ومتطورة... وبذلك يصبح الإنسان متحضرًا، أما أن تبقى عند الكوافير مدة خمس دقائق وتخرج بمظهر جديد، فهذا مثله مثل أن تكون قائدًا في خمس دقائق وخزعبلات التنمية الذاتية. لقد ذهبت تلك التعريفات التي عرف بها الفلاسفة الإنسان، فلم يعد الإنسان الحيوان الناطق، أو الحيوان الذي يفكر، أو الحيوان الذي يختار، أو الحيوان الذي يصنع الصور الذهنية، أو الحيوان الذي يخلق، وكل التعريفات الأخرى التي وضعت من أجل الإنسان لم تعد تصدق عليه، إنه الإنسان الذي يشتري فحسب، والمستهلِك لا غير، صدق علي شريعتي. كل تفكيرهم وهمومهم وحياتهم وتصرفاتهم وتحركاتهم من أجل بطونهم لا غير، من أجل الرفاهية ، من أجل ما يرونه حضارة، ولكنه ليس بالحضارة في شيء، إن المشكلة مشكلة التقاية التي دمرت الإنسان، بحيث دمرت الإنسان كقيمة في ذاته، واندثرت الروح وتلاشت كما يرى آرثر ميلر، وبذلك يكون الإنسان إما زبونًا لبائع أو عاملًا تحت إمرة مدير، أو فقيرًا أمام غني وبالعكس، إنهم أصبحوا عناصر يتلاعب بها بشكل أو بآخر وليست شخصيات ذات قيمة. الحضارة لا يمكن أن توجد في الاستهلاك والمظهر والكماليات، بل توجد في الرؤية والفكر والرؤية الكونية ودرجة التهذيب، وعمق الإحساس والعلاقات الإنسانية والأخلاقية ونظام القيم وقوة الثقافة وغناها والدين والفن والاستعداد للخلق والتحليل والاختيار والاقتباس. إن العصرية عن طريق التقليد تتحقق بسرعة ولكن الحضارة على عكسها تمامًا، إنها نوع من الفوران الداخلي كما يقول شريعتي والتحرر من التقليد والوصول إلى حدود الخلاقيّة والتمييز المستقل. في الحقيقة نعيش أزمة فكرية حادة، انتقلنا من تبني أيديولوجيات حلول إلى أيديولوجية واحدة – أيديولوجية الاستهلاك – يدخل تحتها الجميع حتى من كان يتبجح باليسار والاشتراكية والشيوعية، هذه الأيديولوجية هي الأيديولوجية الوحيدة التي تجمعنا، وتجمع البشرية كافة، ورغم ذلك فإن الصراع الآن ينتقل من صراع الأيديولوجيات المختلفة المتناحرة فيما بينها، أيديولوجيات الأفكار والمشاريع المجتمعية، إلى صراع أفراد وتنافس وتسابق نحو الاستهلاك وإبراز القوة الاستهلاكية وبذلك الانتقال من فكر الأفكار إلى فكر المال والأعمال، إنها المأساة البشرية، عندما يصير الرجال هم أصحاب المال فيرفعون فوق الرؤوس، ويصير المتعلمون والمفكرون وأرباب العلم حثالة المجتمع ولا سيما عندما لا يسعفهم علمهم وعلومهم في الكسب. عندما يقول أحدنا سعيدا:حسنا قد صرت متحضرا، يبتسم هذاالرأسمالي الغربي بانتصار وهو يقول: نعم، وجدت مستهلكا جديدا، علي شريعتي.