(الأستاذان الكريمان الأشياخ بن تكرور و محمد بارك الله أنموذجا) قُمْ للمعلّمِ وَفِّهِ التبجيلا كادَ المعلّمُ أن يكونَ رسولا فهوَ الذي يبني الطباعَ قويمةً وهوَ الذي يبني النفوسَ عُدولا ويقيم منطقَ كلّ أعوج منطقٍ ويريه رأياً في الأمورِ أصيلا (أحمد شوقي) لا يجد المرء أبلغ و لا أمتع من هذه الأبيات الشوقية في مقام التذكر والتذكير بأفضال ومكارم رجال التربية والتعليم، ومالهم علينا من حقوق الإجلال و الإكبار ، و واجب التقدير و الوفاء امتنانا لما قدموا من جميل الصنيع و حسن الأعمال في سبيل تربية وتعليم الأجيال. ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا﴾ ]الأحزاب: 23 ] وفي سياق إحياء ذكرى وطنية غالية على قلوبنا، ألا وهي ذكرى استرجاع اقليم وادي الذهب إلى حظيرة الوطن الأم، وجب أن نتذكر بكل فخر واعتزاز ، أسماء أفذاذ أفنوا أعمارهم ومبلغ جهدهم لحمل أعباء رسالة التعليم ، ومهمة التربية الصالحة للناشئة إبان الفترة الاستعمارية الاسبانية بهذا الإقليم من مغربنا الحبيب. وإذا كان المقام لايتسع لذكر هؤلاء الأكابر الأجلاء جميعا ، وتعداد شمائلهم الكريمة و آثارهم العظيمة ، ولما كان معلوما أن ما لايدرك كله لايترك جله ، فإننا نروم هنا أن نقدم للقارئ الكريم صفحات مشرقة من حياة علمين كبيرين من أعلام التربية والتعليم بإقليم وادي الذهب إبان التواجد الإسباني به: أحدمها هو العلامة اليعقوبي الأستاذ الكريم الأشياخ بن تكرور حفظه الله تعالى وأطال بقاءه ، وأما الآخر فهو المرحوم الأستاذ الكبير محمد بارك الله ، عليه شآبيب الرحمة والرضوان .إن هذه اللمحات السريعة الثاوية في ثنايا هذه السطور المعدودة – والقليلة القاصرة طبعا في حق هذين الرجلين – لاتتغيى سوى تجديد ذكرهما والتعريف بهما في الوسط التربوي والتعليمي الوطني عموما ،والجهوي على وجه الخصوص ، و استلهام قيم التضحية و العطاء من سيرتهما ومسارهما الحافل ، كما تهدف إلى تعزيز ثقافة الإعتراف بالجميل والوفاء لهذين الرجلين نظير ما قدماه من جسيم التضحيات، و عظيم العطاءات في الحقلين التربوي والثقافي بجهة الداخلة وادي الذهب. العلامة الأستاذ الأشياخ بن تكرور : أول مدير لثانوية الحسن الثاني بالداخلة. هو العلامة الفاضل الأشياخ بن الشيخ محمد المصطفى اليعقوبي الموسوي المالكي الأشعري المغربي ، ولد سنة 1937 بمنطقة تسمى(تكبة)، وتقع على بعد مائة متر تقريبا جنوب مدينة الداخلة .ينتسب لأسرة علمية عريقة بالمنطقة ، فوالده هو العلامة الجليل محمد المصطفى بن الشيخ محمد عبد الله بن تكرور، و أمه هي مريم بنت محمد عبد الرحمن الفاضلية (من آل الفاظل بن بارك الله فيه) ، وينتهي نسب جده العلامة الشيخ محمد عبد االله ابن المختار ابن اتفغ موسى اليعقوبي إلى سيدنا جعفر ابن أبي طالب .نشأ في وسط علمي أصيل وبيئة بدوية محافظة ، فقد كان بيت أبيه محج طلبة العلم ، لمكانته المعروفة واشعاع محظرته الواسع ، وفيها تلقى تكوينه بدءا بتعلم الكتابة والقراءة ، ثم اللغة العربية بنحوها وقواعدها وأشعارها ، فضلا عن الآي القرآني والسيرة النبوية . كما كان لوالدته الكريمة اسهام في تعليمه وتكوين شخصيته حيث أكمل على يدها ثلث القرآن الكريم ، ثم أتمه على شيخه الفاضل المرحوم محمد عبد الله ابن ممين ابن ابوه . و بعد ذلك شرع في الدراسة العلمية فأخذ من مختلف الفنون المحظرية المعروفة من عقيدة وفقه وشعر عربي ، وتتلمذ في أثناء ذلك على علماء كبار على رأسهم والده العلامة الشيخ محمد المصطفى ، والعلامة محمد عبد الله ابن ابوه ، والعلامة المجلسي القاضي محمد حبيب الله ولد ابوه ، والشيخ آب ابن البخاري ، كما استفاد كثيرا من تلميذ والده ، و رفيق دربه المرحوم محمد بن محمد فاضل – الذي سياتي الحديث عنه لاحقا – هذا بالإضافة طبعا لتردده المستمر على مجالس العلم ، والبحوث الجمة والمطالعة الدائمة. وفي سنة 1964 التحق الأشياخ بسلك التعليم، وعين بمدينة الداخلة، بعد أن اجتاز امتحان الولوج لمهنة التدريس بقرية تشلا ، بعد ذلك بسنتين انتقل للتدريس بمدينة العركوب ، لكنه لم يتمم التدريس بها حيث تم استدعاؤه لمدينة الداخلة وبقي بها يمارس مهنة التعليم ، كما كانت السلطة المحلية الاسبانية تستدعيه للقيام بترجمة بعض الوثائق المتعلقة بأحكام القضاء وأحيانا أخرى بإحصاء السكان العام.وخلال هذه السنوات شارك في مختلف الدورات التكوينية التي نظمت في اطار التكوين المستمر للمعليمن الذي كانت الإدارة الاسبانية تشرف عليه، و نجح في آخرها كأستاذ للتعليم الأساسي سنة 1975 . وبعد انسحاب اسبانيا بقي في نفس المهمة ، إلا أنه ومع تواجد الادارة الموريتانية انتقل من التدريس إلى الإدارة حيث عين مديرا للمدرسة الإبتدائية بالداخلة . وفي ظل الإدارة المغربية كلف الأشياخ بن تكرور بإدارة التعليم الاعدادي إلى سنة 1984 حيث عين مديرا لثانوية الحسن الثاني ، وبقي بها حتى بلغ سن التقاعد سنة 2002 .هكذا كان المسار العلمي والمهني لهذا لأستاذ الجليل ثريا وإشعاعه التربوي غنيا وحافلا بالعطاءات والإنجازات و تَسنم الرتب العليات ، و التي استحقها بما تميز به من قيم التضحية والإجتهاد والصبر والمثابرة التي طبعت شخصيته المتفردة. وإلى اليوم لايزال عطاءه الفَياض بفضل الله متجددا ومتوقدا ، فمكتبته العامرة و بيته الكريم بمدينة الداخلة يعتبر قبلة للباحثين و الطلبة الدارسين ، ومختلف المهتمين بالعلم و الفكر والثقافة ، كما تعزز إشعاعه العلمي بصدور كتابه الموسوم ب (الجمع الرفيع على قاطرة التسبيع ) سنة 2015 . وهو كتاب فريد في موضوعه ومنهجه ، يعبر – حفظه الله تعالى – عن مرامه ومقصوده منه بقوله في مقدمته: (نيتي هي جمع ما تيسر جمعه من السر الكامن في التسبيع راجيا من سر كل سبعة أن تكون لي حصنا في الدنيا وللأبناء السبعة من مكارهها والمسلمين وكل من قرأ هذا الجمع .. ذلك أنني فكرت في جمع ماتيسر جمعه من كل سبعة مهما كان مصدرها وموضوعها ومغزاها، باستثاء ما لايليق جمعه مع عظمة الله من السر المأثور عن السبع أو في السبع من كل شيء دون أن أغفل ما أمكن حصره من لفظها في العد بها ومثاله سبعة عشر أو سبعة ..) والكتاب هو موسوعة علمية وثقافية وتاريخية ، يضم أزيد من ألف فائدة ، و يتألف من سبعة أبواب تتبع فيها المؤلف مسألة التسبيع في القرآن والحديث والسيرة النبوية والفقه ، والثقافة والتربية والتاريخ العربي و الإسلامي ، وأتى في كل باب منه بنكت و فوائد علمية لطيفة و فرائد جمة طريفة .إن المتأمل في صفحات حياة هذا الرجل العظيم يلحظ أنه جمع بين التحصيل العلمي المتين والعطاء المهني الأمين، وزاوج بين العصامية في تكوين وبناء شخيصته العلمية من جهة ، والعمل الميداني المعطاء في مجال التربية والتعليم ، وتحمل تكاليف هذه الرسالة النبيلة بكل اخلاص وتجرد ونكران للذات . إنه أنموذج حي ينبغي التنويه به و رفع ذكره في كل المحافل التربوية و الإحتفاء به على مختلف الأصعدة والمستويات ، وخاصة في الوسط التعليمي بالجهة ، تعريفا لناشئتنا به وبأضرابه من العلماء والأعلام الفضلاء ، سبيلا إلى استلهام قيم الإجتهاد و التضحية والمواطنة الصالحة من معين سِيَرهم ومساراتهم النابضة بالعطاء و الرقي الإنساني. الأستاذ الجليل محمد بارك الله رحمه الله تعالى : أول أستاذ تم تعيينه بالإدارة الإسبانية بالداخلة إنه الفقيه والأستاذ محمد بن محمد فاضل بن محمد الأمين بن الحاج المغربي الباركي (أو محمد الحاج كما يُعرف بالمنطقة)، والدته هي سكينة بنت عبد العزيز بن الشيخ محمد المامي ، ولد سنة 1932 بإقليم أوسرد ، في وسط علمي و أدبي عريق بالمنطقة ،حفظ القرآن الكريم وهو دون سن العاشرة ، كما درس مبادئ اللغة العربية على يد والده محمد فاضل ، فنهل من علوم اللغة وحفظ المعلقات وأشعار أصحابها وغيرهم مما مكنه من تحصيل رصيد لغوي مهم صنفه في طليعة طلبة المحاظر الصحراوية بمنطقة وادي الذهب من حيث المعرفة باللغة والنحو والصرف والإعراب. انتقل الأستاذ محمد مع نهاية الأربيعينيات وخلال عقد الخمسينيات من القرن العشرين إلى محظرة العلامة الشيخ محمد المصطفى بن تكرور اليعقوبي – والد الأستاذ الجليل الأشياخ بن تكرور – والتي كانت حينها من أبرز المحاظر الصحراوية بالمنطقة ، فدرس الفقه المالكي أصولا وفروعا ، مبتدئا بكتاب الأخضري فمتن ابن عاشر ، ثم مختصر خليل والمدونة، ثم رسالة ابن أبي زيد ، وبعد تضلعه فيه علوم الفقه المالكي قرر بإيعاز من شيخه دراسة علوم القرآن من رسم وتجويد ، فدرس منظومة ابن بري والشاطبية وغيرها، كالنهل من ثقافة الصحراء المحلية فحفظ عدة دواوين شعرية حسانية لأدباء وشعراء من مجمتع البيزان قديما وحديثا. وفي سنة 1960 اجتاز امتحان أساتذة اللغة العربية والدين الإسلامي بالمدارس الإسبانية بمدينة الداخلة ففاز بالرتبة الأولى ليتم اعتماده أستاذا للمادتين بسلك التعليم الإسباني وذلك بتاريخ 4 فبراير 1961، وعين بمدينة الداخلة حث تابع بها التدريس منذ ذلك الحين الانسحاب الاسباني سنة 1975. تخرجت على يده أجيال من أبنا المنطقة وغيرهم وأسهم بشكل كبير في حفظ وصيانة وجمع نفائس المخطوطات والوثائق التاريخية الصحراوية خاصة مؤلفات علماء المنطقة أمثال الشيخ محمد المامي ، و امحمد ابن الطلبة ، ومحمد عبد الله بن الفيلالي وغيرهم من أعلام الصحراء في مختلف الحقول العلمية والفكرية المتنوعة . وقد ترك بعد وفاته ما يناهز 300 مخطوط ووثيقة تاريخية تولى ابنه محمد فاضل مهمة جمعها والحفاظ عليها ، وتمكن من تأسيس"جمعية جلوى" لصيانة المخطوطات واستثمارها في التنمية المحلية .ومن الناحية العلمية أيضا ، فقد أسهم محمد بارك الله رحمه الله في تأسيس زاوية علم الشيخ محمد المامي وإعادة تفعيل دورها في الأقاليم الجنوببية ، وكذا في موريتانيا ، وذلك لكونه الأقرب للشيخ حيث ترعرع في وسطه العائلي ونهل من علومه من قريب فكان معترفا له بالخبرةالمتميزة في أدب جده وعلومه . توفي رحمه الله تعالى سنة 2002 ، و ووري الثرى بمدينة الداخلة العامرة . ومما يحسن أن نجعله مسك ختامنا في الحديث عنه ، هذه القطعة الشعرية البديعة التي رثاه بها الفاضل الكريم محمد عبد الله بن محمد سالم بن محمود بن تكرور : يا من نعيت لنا بالامس فاضلنا والدمع منك على الخدين في حرق نعيت شيخا أبي النفس ذا ثقة سخي كف كريم الخلق والخلق يالهف نفسي فمن للحاج يجمع ما قد كان يحفظه فردا وفي حلق ومن للشيخ محمد المام بعدك في شعر ونثر وفي سر وفي طرق يا بارك الله في الابنا و الهمهم صبرا جميلا بلا اين ولا ارق الله يرحمه ما – كان – أعظمه حلما و أعبده في ليله الغسق يارب صب على قبر تضمنه رحمى تكون بلا رعد ولا برق صلى وسلم ذو العرش المجيد على نبينا خير من في الأرض والأفق الأشياخ بن تكرور ومحمد بن محمد فاضل : مدرسة في العلم و العطاءلا شاهد أبلغ في ختام هذه النظرات واللمحات السريعة من حياة هذين العلمين الفاضلين الجليلين، من قول القائل ::كرِّر عليَّ حديثَهم يا حادي / فحديثُهم يَجلو الفؤادَ الصَّادي لقد كان الرجلان بحق أنموذجين ساطعين في التفاني في العمل التربوي والثقافي بالجهة ، وقدما الغالي والنفيس من حياتهما في سبيل القيام بالواجب التعليمي على أكمل وجه ، ولم يألوا جهدا في سبيل تربية الأجيال على االقيم النبيلة والأخلاق الفاضلة الأثيلة ، فتخرجت على يديهما صفوة من أطر وأعيان جهة الداخلة وادي الذهب ، هم اليوم في مواقع المسؤولية والتدبير ، فكانت هذه المناسبة الوطنية الغالية – والمناسبة شرط كما يقال- وهي ذكرى استرجاع اقليم وادي الذهب، فرصة للإلتفات لفضلهما الكبير ، ومقامهما الأثير ، وتذكر عظيم ماقدماه عرفانا وامتنانا للجميل ، وتنبيها إلى ضرورة العناية الدائمة بهؤلاء الأعلام وتكريمهم التكريم المستحق ، وتعريف الأجيال الجديدة بأعلام المنطقة وفضلائها، حتى يكونوا نبراسا وقدوات ايجابية للناشئة في التحلي بقيم المواطنة و حب العلم والعمل والبذل والعطاء.