شكل خطاب الملك بمناسبة الذكرى ال18 لتربعه على العرش حدثا بارزا، قدم من خلاله الجالس على العرش الحصيلة لمرحلة امتدت لأزيد من خمس سنوات من الممارسة السياسية والإدارية، في ظل الإصلاحات السياسية المتقدمة التي أتى بها دستور 2011. كما اعتبره العديد من المهتمين بالشأن السياسي محطة مفصلية اتسمت بالصراحة والنقد الذاتي سيرا على نفس المنوال في الخطابات الأخيرة للملك، وذلك من خلال وقوفه على إخفاقات الممارسة السياسية والإدارية بالبلاد، وتحديده للمسؤوليات، والعوامل التي ساهمت في فشل الفاعل السياسي في قيامه بأدواره الدستورية، في إعلان شبه رسمي عن فشل الوساطة بين الشعب والدولة المغربية. خطاب الملك كشف المستور، ورفع الغطاء عن الوجه المزدوج للأحزاب السياسية، ولإستراتيجيتها المعتمدة في الاصطفاف وتبني للمكتسبات والاستفادة من الامتيازات من جهة، وكيف تتوارى من جهة أخرى إلى الخلف، وتضمر المواقف السلبية والباهتة، وتمارس الحياد السلبي، إن لم تكن تحرض ضد الدولة ومؤسساتها في فترات أخرى أثناء تدبيرها للملفات وقضايا معقدة وشائكة. خطاب هذه السنة، يندرج في إطار تصحيح مسار الاختيارات الديمقراطية بالمغرب في علاقتها بنموذجه المؤسسي، وذلك برسمه لمعالم طريق جديدة، ووضعه حدا فاصلا يميز بين ما تراكم للدولة من خبرات وإنجازات وسمعة طيبة بفضل نجاعة سياساتها القطاعية والاقتصادية، والتي بوأته مكانة محترمة على المستوى الدولي والجهوي والقاري، وبوضعه لمسافة من الفاعل السياسي وتحميله المسؤولية من خلال تشخيص علمي يضع اليد على الداء ويحلل المعطيات، ويفسر أسباب تصاعد منطق الاحتجاجات بمختلف جهات المملكة، ويربطها بفشل مشاريع التنمية البشرية، وغياب أثرها المباشر على الحياة اليومية والاجتماعية للمواطن في مختلف جهات المملكة، كأبرز مسببات توسيع الهوة بين المواطن والأحزاب السياسية باعتبارها مؤسسات دستورية أوكلت إليها مهمة تنشيط المواطن وتنشئته على المواطنة والإخلاص للوطن. نموذج مؤسسي وخطاب يستمد روحه من عالم المقاولة ويربطه بالمسؤولية والمحاسبة خطاب الملك يستمد أسسه المنهجية من حيث اللغة والأسلوب من قواعد التفكير المقاولاتي في القطاع الخاص، مع الأخذ بمسافة تجاه كل ما هو إيديولوجي، وهو يروم خلق دينامية جديدة، تقوم على التنافسية وترتكز على الخلق والإبداع، وتعتمد على آليات المتابعة والتحفيز في علاقتهما بربط المسؤولية بالمحاسبة، كسياسة ترمي إلى تحرير العقول والكفاءات، والإنهاء مع ثقافة الريع والتموقع للاستفادة من امتيازات الدولة، إذ لا يمكن الاستمرار على نهج أتبث فشله، وكاد أن يهدد المغرب في أمنه واستقراره. خطاب العرش شكل مناسبة جدد الملك من خلالها عزمه وتأكيده على المضي قدما في تفعيل مبدأ ربط المسؤولية بالمحاسبة كإحدى المخرجات الأساسية التي من شأنها أن تسرع من وثيرة الإصلاحات، وكأداة قانونية يمكن توظيفها في تأهيل الإدارة والمشهد الحزبي بالمغرب والحد من الممارسات السلبية للفاعلين الإداريين والسياسيين. خطاب الملك كشف أيضا عن رغبة الدولة الابتعاد عن المنطقة الرمادية، والتي باتت ترهن الانتقال الديمقراطي بالعالم العربي عقب فشل الربيع العربي، ونتيجة للتحولات والتطورات الدولية المتسارعة للعالم، وتوجه الدول نحو اختيارات جديدة تركز على تدبير المعلومة كثروة حقيقية باتت أكثر أهمية وقيمة من الغاز والبترول. في خطاب العرش بعث الملك برسالات مشفرة تذكر بفشل الزعمات السياسية الكلاسيكية المتصارعة على السلطة تحت مسميات وبراديغمات ليبرالية علمانية أو اشتراكية أو إسلامية، والتي لعبت أدوار مزدوجة طوال المرحلة السابقة من الركوب على إنجازات الدولة والاستفادة من امتيازاتها، وفي نفس الوقت تألب الشعب ضد المؤسسات وتشكك في قدرتها على تدبير الملفات المعقدة ( تقرير المجلس الأعلى لحقوق الإنسان إزاء تدخل المؤسسة الأمنية في أحداث الحسيمة). في المقابل يؤكد الملك في خطابه بوضوح على أهمية إعطاء الأولية إلى النجاعة والتميز في الأداء، وربطهما مباشرة بالتماسك الاجتماعي من خلال إنجاز المشاريع التنموية، إذ لم يعد بإمكان الفاعل السياسي ولا للمسئول الإداري في عالم اليوم أن يمارس ازدواجية الخطاب، والاستمرار في نهج نفس المقاربات التي أتبت فشلها في التعامل مع الأوضاع الداخلية بالمقرب، مما ساهم افتقاد المواطن لثقته في المؤسسات وتوسيع الهوة بينهما. وكون الإصلاحات السياسية والإدارية والاقتصادية وفق شروط الحكامة الجيدة لا تتحقق دون الأخذ بعين الاعتبار بالمعطيات الإحصائية التي تكشف عن العلاقة بين الروابط الاجتماعية (نسبة الطلاق، والانخراط في النسيج الجمعوي، والفقر الهشاشة، والفوارق الاجتماعية) والتميز في الأداء في الإدارة والمقاولة ومشاركة المعلومة ومئسستها (جلب الاستثمار، والتحكم في الدين الخارجي، وخلق مناصب الشغل، والرفع من الناتج الوطني الخام، والرفع من التعليم، والقدرة على الخلق والإبداع)، فإن تحديد المؤشرات، ومشاركتها واعتمادها كمنبهات الإيجابية أوسلبية يلعب دورا في تعميق التشخيص التشاركي الجدي، ويمكن الفاعلين السياسيين من التفكير الجماعي الرامي إلى استنتاج الخلاصات الصحيحة والمساهمة في تحديد مشاريع مجتمعية تحضى بتوافق وإجماع جميع الشركاء بمختلف أطيافهم، كتعبير حقيقي عن حاجيات المجتمع برمته، والتي تنم عن دراية كبيرة بطرق التميز في الأداء والنجاعة الرامية إلى التقليص من هامش الخطأ في السياسيات العمومية. الاختيار التنموي بين التطور المؤسسي ومخاطر النكوص السياسي في ظل المفارقات المتباينة بين تطور النموذج المؤسسي المغربي، مقابل إخفاق القطاع الاجتماعي ومشاريع التنمية البشرية، أكد الملك على حرصه والتزامه بممارسة صلاحيته الدستورية الرامية إلى الحفاظ على الأمن وعلى سير المؤسسات، وأمام الاهتمام والتتبع الواسع الذي حضي به خطاب الملك، فتح النقاش العمومي من جديد حول السبل والبدائل الممكنة لحل الإشكالات التي تقف وراء فشل الإدارة والطبقة السياسية في القيام بأدوارها بشأن إنجاز البرامج التنموية والتنشئة الاجتماعية، وحول الرفع من جودة الحياة الاجتماعية، وخلق انفراج في الأوضاع السياسية والأمنية، بعد ما خلفته أحداث الحسيمة من احتقانات اجتماعية وحقوقية، تندر بمخاطر التراجع عن مكتسبات المسلسل الديمقراطي بالمغرب. خطاب الملك في نظر بعض المتتبعين للشأن السياسي، لم يقدم جوابا كافيا حول الجدل القائم لدى الفاعلين الحقوقيين والسياسيين حول سؤال من يتحكم في من، ومن يفشل مشاريع الدولة، ومن يجهض تطلعات المغاربة إلى حكم منصف وتوزيع عادل للثروة، في ظل وجود معارضة تلقي باللائمة على القصر الملكي، وتحمله مسؤولية فشل الأحزاب في القيام بأدوارها وتأطير المواطنين وتمثيلهم، رغم افتقاد الكثير من هذه الهيئات السياسية والحقوقية إلى سند شعبي يناصر مطالبها السياسية والحقوقية. في المقابل توفر الطفرة الرقمية وتطور مواقع التواصل الاجتماعي منصات إعلامية تمكن ′′المواطن الصحفي′′ من التعبير عن مواقفه تجاه سياسات الدولة، وإسماع صوته لدى المنتظم الدولي، والتحذير من مخاطر تمركز السلطة الفعلية في يد الملك، وحول تنامي مظاهر الردة والنكوص عن المكتسبات الحقوقية والإصلاحات السياسية، مما قد يوحي بتراجع الدولة عن التزاماتها المقتضيات الدستورية، وعن مسلسل الإصلاح الديمقراطي برمته. وكون خطاب العرش ارتكز على إبراز النموذج التنموي كاختيار استراتيجي للدولة المغربية، فهو في من جهة أخرى يفرض نفسه كوجهة نظر الدولة وموقفها تجاه مخرجات الأزمة المغربية، وكفاعل حقيقي يستمد شرعيته من قوة الإنجاز، في تحد واقعي ضد دوي التوجهات المعارضة من خارج المؤسسات لنظام الحكم بالمغرب. خطاب الملك يتضمن رسائل غير مباشرة، تفيد أن الرفع من سقف المطالب السياسية والتقليص من سلط الملك هو تعاقد حول الدستور لا رجعة فيه، وأن إصلاح المؤسسة الملكية شيئ ممكن لكنه أمر يجب أن يتحقق بأقل كلفة، وأن مثل هذه المشاريع ليست مجرد أفكار على ورق فقط، وتحقيقها هو يتوقف على ماذا التزام ومسؤولية الفاعل السياسي بالعمل على ترجمة أقواله إلى عمل ميداني مسؤول، يحافظ على سير المؤسسات، ويسهر على تحقيق مصالح الناس وحماية أمنهم، ويقوم بتعبئة المواطن وتأطيره من أجل الرفع من وعيه بأهمية توسيع هامش الحريات والحفاظ على المكتسبات، والفصل بين السلط. خطاب الملك وفر على الفاعل السياسي عناء البحث عن مخرجات لأزماته والتنصل من مسؤولياته، من خلال دعوته إلى العمل أو الاستقالة بدلا من الإلقاء باللائمة على الدولة، وتحميلها مسؤولية التدخل في الأحزاب السياسية وفي قراراتها السيادية، وكلفه بضرورة الرقي بالممارسة السياسية من خلال ربط المسؤولية بالمحاسبة، والتنافسية بالنتائج في علاقتهما بالسلم الاجتماعي، وانعكاس البرامج التنموية على حياة المواطن والاستجابة لحاجياته، مع عدم إغفال أهمية إقناع الفاعل الاقتصادي، ولشركاء المغرب الإقليميين والدوليين.