تميد النفس البشرية التي جبلت على المكر والخيانة إلى مجابهة الحق ومصارعته منذ الأزل ولنا في ذلك مجموعة من القصص التي أوصلها لنا المؤرخون، كان أهمها محاولة المرأة اليهودية تسميم رسول الله صلى الله عليه وسلم، التي باءت بالفشل مع سيد الخلق وكُلِّلَت بالنجاح مع المفكر السوري عبد الرحمان الكواكبي، الذي عاش في النصف الثاني من القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، هذه الفترة التي أضحى فيها العالم الإسلامي بقرة حلوبا للغرب بتزكية من حكام الجبر، عبدة الهوى. في مقابل هذا الواقع المُر الموسوم بالهزائم والتكالب على الأمة الإسلامية ظهر نبراس عبد الرحمان الكواكبي الذي هتك حجاب الظلام، فكتب مجموعة من المقالات التي كان موضوعها الاستبداد جمعها في كتابه الشهير "طبائع الاستبداد ومصارع الاستعباد" بعد أن اشتغل صحفيا في جريدة الفرات وأسس جريدته الحرة "الشهباء". تميز بتنوع اختصاصاته بين ما هو اقتصادي وإداري وقضائي وعرف بمعارضته الشديدة للظالمين. الشرعية والمشروعية لا يحتاج المواطن المغربي إلى معرفة عالمة حتى يعرف الهوة العميقة بين الحاكم والمحكوم بخصوص أزمة الشرعية، فالحاكم الفرد يرث السلطة أبا عن جد ويتربع على العرش بتزكية تجار الدين دون أن تكون فيه المواصفات اللازمة والضرورية للقيادة، لدرجة أنك تعرف من سيحكمك في بطن أمه، وهذا التوريث بدعة من أكبر البدع وخروج عن المنهج الإسلامي المستقيم. وورث المحكوم الرضا بهذا الحاكم وإن كانت لديه إعاقة عقلية، مصفَّدا بجهله وأميته، ومقيدا بخيانة علماء السلطان وتهميش أصحاب الرأي السديد. الداء الدوي وإنما يطلب الإنسان التغيير لسوء الأوضاع والتدهور المعيش على كافة المستويات، إذ من السُفْه أن تظل مواليا لنظام متخلف دون أن تتطلع في أقوالك وأفعالك للأفضل، كما أن المرء ليس مجبرا أن يختار بين السيئ والأسوإ بل قدرنا يخيرنا بين القبيح والجميل والجيد والرديء، لما خلق الله تعالى الداء خلق معه الدواء إلا الحماقة كما قال الشاعر أعيت من يداويها، فمن الحماقة أن تعيش في كنف الأوضاع المزرية والتدهور الملفت والتخلف البين وتكتفي بتشخيص الداء دون البحث عن الدواء، والداء هنا ليس واحدا وإن كان كذلك لنقل وباءً أصاب قطاعا واحدا وانتشر في باقي القطاعات وهذا الداء حسب الكواكبي هو الاستبداد الذي نجمت عنه كوارث إنسانية باسم الدين وقد وصفه بالداء الدفين فقال: "ولي هنا قصد آخر هو التنبيه لمورد الداء الدفين." هذا الداء أصاب عروة من عرى الإسلام وهي عروة الحكم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :"لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، وكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضا الحكم وآخرهن الصلاة". في معنى الاستبداد تفيد كلمة استبد في المعاجم العربية معنى التعسف والانفراد بالرأي من غير مشارك، هذه المعاني تقترب من العبارة التي تعرف معنى الاستبداد حسب الكواكبي إذ قال في "الطبائع" الاستبداد يعني "التصرف في الشؤون المشتركة بمقتضى الهوى"، إن كلمة الهوى لا تقتصر على الأشخاص فقط كالأحكام الجاهزة التي طالت مناضلي حراك الحسيمة التي أصبح جليا من وراء هذه الأحكام المستبدة خصوصا بعد أن كشفت الخطابات التاريخية مؤخرا عن المستور، عن الحقيقة المتخفية وراء الظاهر بل تتجاوز ذلك إلى الحديث عن الأنظمة التي لا شرعية لها، والمؤسسات والأفراد. تعامل المؤسسات والأنظمة والأفراد بناء على هواهم كان نتيجة غياب المحاسبة والعقاب والمتابعة، لذلك تجد معارضي الأنظمة العربية المستبدة كالنظام المغربي تطالب بربط المسؤولية بالمحاسبة. الاستبداد وباء فتاك أصاب الأنظمة العربية السياسية منذ أن تولت أغيلمة قريش الحكم، وأصبحت تسوس أمور الناس ومستقبلهم، هذا الوباء الذي انتشر بسرعة من أعلى مؤسسة إلى باقي المؤسسات، فيفسد حسب الكواكبي العقل والدين والعلم، ولقد بين الكواكبي أبرز تجليات الاستبداد في فقرة بديعة حيث قال: "لو كان الاستبداد رجلا وأراد أن يحتسب وينتسب لقال: أنا الشر، وأبي الظلم، وأمي الإساءة، وأخي الغدر، وأختي المسكنة، وعمي الضر، وخالي الذل، وابني الفقر، وبنتي البطالة، وعشيرتي الجهالة، ووطني الخراب، وأما ديني وشرفي وحياتي فالمال". هذا الكواكبي يتحدث عن مخلفات الاستبداد وآثاره الوخيمة على المجتمع، صحيح أن الكواكبي لم يتحدث عن نظام بعينه ولكنه في العبارة كأنه يتحدث عن الأنظمة العربية عامة والنظام المغربي بالخصوص؛ لذلك تجده عندما أراد أن يتحدث عن مراتب الاستبداد قال أشد مرتبة : التي يتعوذ بها من الشيطان، هي حكومة الفرد المطلق، والوارث للعرش، القائد للجيش الحائز سلطة دينية." المستبد يفسد العقل والدين والعلم قال الكواكبي :"ليس من غرض المستبد أن تتنور الرعية بالعلم." لهذا السبب نجد الشعوب المستضعفة تستحم في وَحْلِ الجهل، وتسبح في بحر الأمية، وتستنشق هواء الذل والهوان، لن أقول إن باتساع القراءة والتعليم، وكثرة المدارس يعظم الخطر على الفاسدين المستبدين، وإنما يقع ذلك بانتشار الوعي وإيقاظ الضمير باعتباره جهازا رقابيا على النفس وموقظَ النفس من الخمول والكسل وشاحذَ الهمم لمعانقة الكرامة التي كانت تعد خطا أحمرَ عند الإنسان المسلم القديم. وصفات لعلاج الداء الاستبداد صفة لازمة للأنظمة العربية وقد استطاع الكواكبي أن ينظِّر لقضية الاستبداد تنظيرا محكما متماسكا، فالاستبداد ريح عاصف فيها صرٌّ أصابت قوما بعد أن تخلوا عن المحجة البيضاء فخربت جوهر الإنسان وأعاقت التقدم والتطلع للرقي والسير نحو الأفضل، لهذا وجدنا الكواكبي يقدم بعض الحلول للقضاء على الاستبداد الذي اعتبره داءً دفينا ودواؤه تغليب الشريعة على السلطة، وتوحيد الله، مع العلم أن الاستبداد حسب الكواكبي هو مفسد الدين في أهم قسميه أي الأخلاق. يكفي أن تفيء سنوات قليلة للوراء لتعلم يقينا أننا أصبحنا غثاءً كغثاء السيل وقذف الله في قلوبنا الوهن الذي فسره رسول الله صلى الله عليه وسلم بحب الدنيا وكراهية الموت؛ لتخلينا عن تعاليم الإسلام فأصبح الرويبضة يتحدث في أمور العامة ويُصدَّق الكاذب ويُخوَّن الصادق. متى رضي الله تعالى لنا الذل والهوان وهو الذي قال: "إن الله يدافع عن الذين آمنوا، إن الله لا يحب كل خوان كفور." وقال في موضع آخر: " ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين." وقد عبر الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن حقيقة الداء الذي خرَّب الأمة عندما قال: "لقد كنا أذلاء فأعزنا الله بالإسلام فإذا ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله." لما تخلينا عن الأساس الذي أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعض عليه بالنواجذ أصبح يقودنا التافهون روبيضة هذا العصر، ويحكمنا الأنذال سفلة الناس، ويعلو الأوباش، بينما القادرون غارقون في وحل سجون الطغاة الذين ستلفظهم الأمة طال الزمن أو قصر وعد رب الناس.