قيل الكثير ولازال بخصوص صراع الإيديولوجيات وانعكاسات التنافر الذي تغذيه على استقرار وتماسك المجتمعات، وقيل ما قيل ولازال المفكرون يرون في قطبية التوجهات الفكرية للسياسيين خطرا يهدد بشكل مباشر استمرارية الدول وتوازن قواها. وما شهدناه في مغرب 2011 وما تلاه من تغيرات شملت جزءا كبيرا من أسس الدولة ومرتكزاتها ووضع كل ذلك في راهنيته الآن يجعلنا نتيه في دوامة عودة الإيديولوجيات الفكرية للواجهة وبروز أخطارها على المسار الذي انتهجته المملكة بعد دستور 2011 الذ تنيز بانصهار اسلاميي العدالة والتنمية في اللعبة السياسية وقبول دخولهم لمعترك السلطة بعد انتخابات 25 نونبر 2011. فهل ستزيد حدة الصراع الإيديولوجي بين اسلاميي المغرب وعلمانييه بالقدر الذي سيقوي فرضية تغذية الإنقسام الفكري وما لذلك من انعكاسات على استقرار المملكة؟ وإذا كان سلاح المسيرات والوقفات الإحتجاجية له إيجابياته وسلبياته حسب حجم وزخم المسيرة والجهة الموجهة ضدها، فهل يجوز لنا كمتتبعين القول بأن تنظيم مسيرة ضد عبد الإله بنكيران وتجربته الحكومية للتنديد بما سموه منظموا المسيرة "أخونة الدولة" في هذا التوقيت بالضبط، يحمل من الإشارات ما يكفي للتأكيد على انطلاق الحملة الإنتخابية لمعارضي حزب العدالة والتنمية حتى قبل انطلاقها الرسمي في 24 شتنبر وبالتالي توجيه الناخبين والتدخل لفائدة معارضي الحزب وأبرزهم حزب الأصالة والمعاصرة؟ منذ 2011 وقبله بقليل طفى للسطح صراع سياسي قديم متجدد بين قطبين من أقطاب المجتمع المغربي، صراع يتغذى من فكرين مختلفين رغم التقائهما حول فكرة الثوابت، ويتزعمهما حزبي العدالة والتنمية والأصالة والمعاصرة، الأول محافظ يميل لتدخل أكبر في لجم بعض الممارسات الإجتماعية المرتبطة بالحريات الفردية والثاني تحرري يميل للعلمانية وفصل الدين عن السياسة وعدم فرض أية قيود على حريات الأفراد الشخصية. ونحن على بعد أيام قليلة من موعد 7 أكتوبر، تجددت فصول هذا التصعيد عبر تنظيم مسيرة المهزلة من طرف مجهولين بمباركة الداخلية التي سمحت بتنظيمها حتى قبل انطلاق مرحلة الحملات الإنتخابية وتعبئة مواطنين لتأليبهم ضد بن كيران وحزبه ورفع شعار محاربة "أخونة" و"أسلمة" الدولة في وجه العدالة والتنمية وكأننا في بلاد غير إسلامية وليس فيها إمارة للمؤمنين كنا ينص على ذلك دستور وأعراف المملكة والمطالبة برحيل بن كيران وحزبه عن التدبير الحكومي في آخر أيام الحكومة التي يتولى رئاستها منذ 2011. مسيرة الأحد بالدارالبيضاء وقبلها منع القباج من الترشح بمدينة مراكش والتضييق على أنشطة حزب العدالة والتنمية في مجموعة من المناسبات وتدخل الولاة والعمال ورجال وأعوان السلطة وانكشاف انحيازهم لمنافسي الحزب في العديد من القضايا التي كان فيها طرفا وتسهيل مأموريات خصوم هذا الأخير رغم ما تقتضيه المنافسة الشريفة من حياد السلطة في تعاطيها مع كل الأحزاب السياسية، تدل بشكل واضح على رغبة جامحة، لمنظميها والأيادي الخفية المساهمة في تحريكها والتعبئة لها، للإطاحة بحزب بن كيران وزملائه لفائدة الأصالة والمعاصرة وإنهاء الزواج الذي دام خمس سنوات بين الإسلاميين والسلطة وإعلان طلاقهما بعدما أدى الحزب مهمته بشكل مميز عقب ما عرف بالربيع العربي ولم يعد وجوده ضروريا بعدما هدأت العاصفة. كلها إشارات تعاقبت على إثارة الرأي العام الوطني في الآونة الأخيرة واختلط فيها السياسي والإيديولوجي والفكري وتجدد معها النقاش حول النظام المجتمعي المناسب لمغرب ما بعد دستور 2011 المجسد لانخراط البلاد في مسار يحافظ فيه على هويته التاريخية الإسلامية من جهة وتشبعه بمفهوم حقوق الإنسان كما هو متعارف عليه دوليا من جهة أخرى. إلا أن ما يثير استغراب واستهزاء المغاربة هو افتضاح وجه السلطة وانكشاف تعاطيها غير المتوازن مع مختلف مكونات المشهد السياسي المغربي وتغليب كفة أحزاب بعينها دون أخرى. إذ ما معنى عدم منع مسيرة الدارالبيضاء ونحن على بعد أيام من انطلاق الحملة الإنتخابية والسماح لجهات معينة لتعبئة مواطنين والكذب عليهم لحشدهم ضد بن كيران وحزبه واختلاق شعار محاربة أخونة الدولة لإحراج حزب العدالة والتنمية وتصويره على أنه خطر يهدد المغاربة وجب محاربته وبالتالي دعوتهم بشكل مباشر وغير مباشر للتصويت ضده لصالح أحزاب أخرى ومن بينهم حزب الأصالة والمعاصرة. وما معنى بعث نقاش العلمنة والأخونة وكأننا في مصر 2013 لتأجيج الخلاف والصراع بين داعمي التحرر والمحافظين واستغلاله لصالح الحزب المعارض للحزب الحاكم حاليا والمتمثل في الأصالة والمعاصرة الذي يختلف إيديولوجيا مع الأول وكأن المواطن المغربي لا ينقصه سوى إيجاد حل لهذا النزاع الإيديولوجي لتغليب كفة جهة دون أخرى. شعار علمنة الدولة وأخونتها لا يجب أن يوظف لتصفية حسابات الأحزاب السياسية عبر إقحام المجتمع المدني والمواطنين البسطاء في لعبة سياسية قذرة لإلهاء الرأي العام الوطني بنقاش نحن في غنى عنه وتسخير ذلك كحملة انتخابية قبل أوانها لحساب طرف ضد طرف آخر، وبالتالي تضييع جهدنا وتركيزنا على أمور حسم الأمر فيها في دستور وأعراف المملكة حيث تتولى فيها إمارة المؤمنين مسؤولية تدبير الشأن الديني ببلانا والتدخل لحل الخلافات وتدبير الخلاف الديني والفقهي والإيديولوجي المستشري في المجتمع وهي المخول لها التحكيم بين المؤسسات في هذا المجال. رجاءا لا تلعبوا بنار العلمنة والأخونة، ولا تستغلوا بساطة وحاجة وعوز بعض المواطنين لتأليب وتأجيج وتجييش فئة مجتمعية ضد فئة أخرى، رجاءا لا تدخلونا في دوامة خلافاتكم الإيديولوجية والفكرية وصراعاتكم السياسية التي فطن المغاربة لقذارتها ووسخها وانتهازيتها ودعوا بلادنا تنعم بالأمن والأمان، رجاءا لا تقحمونا في مرحلة شك وريبة يسود فيها الخوف من مستقبل نجهل ملامحه ونحن الذين حمدنا الله على تجاوز مرحلة الربيع العربي بسلام وتفاخرنا بكوننا استثناءا لما شهدته الدول العربية الأخرى من اهتزازات سياسية ومجتمعية لازالت لحد الآن تأدي ثمن عدم استقرارها. اللهم جنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن يا رب.