سال المداد في العديد من الأوراق حول انبثاق النخبة و تجليها داخل الخطاب السياسي المغربي. وأرجح التوصيف الذي كان طاغيا أن هناك نخبة مستقلة تقرأ المشهد بنوع من التجرد عن الخطاب الرسمي ، وقد عانت ويلات ذلك في فترة من الزمن بعد الاستقلال ، وهناك نخبة مصنوعة استغلت في محطات شتى لتلميع الصورة العامة للنموذج القيادي الرسمي ، بل وانخرطت بشغف في المؤسسات بعدما انتشت حلاوة الشهرة في المنبر الإعلامي . غير أن ما يثير الإنتباه في بداية الألفية الثالثة ، هو الجرعة الحقوقية التي ميزت المناخ المغربي ، التي تلاقح فيها ود قبول التوافقات السياسية ، والكثرة العددية للأشخاص الحاملين لواء النخبة ، إذ أن الفاعل الرسمي لم يستطع التحكم في توجيههم نحو تبني نمط تفكيري منسجم بشكل مطلق مع توجهاته . هذا الواقع يدفعنا للتساؤل حول ما إذا كانت مخرجاته قد إستطاعت الحفاظ على النمط الكلاسيكي لتصنيف النخبة إلى مستقلة و مصنوعة ؟ . إن ما أفرزته الممارسة السياسية في الألفية المذكورة ، خصوصا بعد التعديل الدستوري لسنة 2011 وأحداث الريف الأخيرة ، يعطي فكرة أولية تكاد تكون مطلقة ، حول طفو نخبة أقرب إلى الإغتراب بين الصنفين منها إلى تبني أحدهما ، ولا أدل على ذلك التصريحات الأخيرة لبعض الجامعيين حول مسببات حراك الريف ، و نشير في هذا المقام إلى أن النقد الموجه لها لا يكمن في تبنيها موقف دون آخر أو تماهيها مع خطاب رسمي أو غير رسمي ، وإنما ما يلاحظ في سياق قراءتها للأحداث الجارية هو أنها غير مرتكزة على أسس علمية و تحليلة دقيقة ، كما أنها تأخذ طابعا مزاجيا مبنيا على ظرفيات حساسة تحتاج إلى بعد زماني ومكاني يحتاج إلى نفس طويل لمعرفة حقائق الموضوع ، هذا فضلا عن كونها تفتقد لروح الدليل و الانسجام ، إذ أن مصداقية خطابها السياسي لا تصمد في حقيقتها حتى بين محطة تلفزية وأخرى . والغريب في الأمر أن هذه النخبة بين قوسين ، غالبا ما تصنع مكانا لها من مراكز مدنية غير رسمية ، انطلاقا من مكاتب الدراسات و مراكز الأبحاث ، وتنسب لها صفة الخبرة ، التي تحتاج إلى ممارسات ميدانية في العمل السياسي أكثر من البناء النظري في التحليل . هذا النمط الجديد من النخبة الذي إستفاد من الإنفراج السياسي المغربي ، أقل ما يقال عنه أنه نموذج إنفصامي و مهترئ ، يضر بكثير النقاش العمومي و يشكل خطورة على الدولة ، من خلال إطلالاته بأفكار متسرعة و غير مبنية على حقائق . حتى ولو كانت هذه الحقائق في صف الفاعل الرسمي ، لأنه في واقع الأمر لا يمثل الحقيقة السياسية النسبية ، بقدر ما يعكس رغبته في الحصول على مصالح ليست بالهزيلة كما يعتقد البعض . وعلى هذا الأساس ينبغي أن يثار النقاش بجدية حول واقع النخبة بالمغرب ، مع التأكيد أنه ليس من العيب وجود نخبة تتموقع في المتناقضين المشار إليهما سابقا . وإنما يجب مناقشة سياقات النخبة الجديدة التي تميل إلى الإتهام في الوقائع السياسية و عناصرها إلى درجة أنها قد تتجاوز حتى موقف الطرف الأساسي في المعادلة (الفاعل الرسمي) ، وما تخلفه من ردود فعل و تصريحات عدائية لهذا الأخير من جهة، و فيما تسببه من إنحدار أخلاقي داخل النقاش العمومي خصوصا في الفضاء الإعلامي من جهة أخرى . إن الأساس الحقيقي لإستغلال البعد النقدي ونقيضه داخل الخطاب السياسي يكمن في تبني أفكار مقنعة مبنية على حدود معينة من الحقيقة ، وغير قائمة على هواجس شخصية أو حتى على ردود فعل مرتجلة ، ولعل النخبة الجديدة قد تنتبه لهذا الطرح ، لأن مفهوم الإعتدال داخل الخطاب السياسي الذي تمثله النخبة ، يتوخى تبني حكمة التحليل و متانة الحجة ودقة الملاحظة و الأخذ بعين الإعتبار الأبعاد الحقيقية للمشاكل السياسية في الدولة وتداعياتها ، لا أن تنصب وجهات النظر عن الدفاع على التوجهات الرسمية بدون حقائق ثابتة .