خَلُصت دراسة أجراها معهد الأبحاث الدولية التابع لجامعة هيدلبير الألمانية، إلى التأكيد على تراجع معدلات الانقلابات العسكرية في العالم، من متوسط قدره 20 انقلابا كل عام، إلى أقل من خمسة انقلابات في المتوسط منذ الألفية الثالثة. ومع اتجاه الدول إلى تبني التعددية السياسية، تراجعت موجة الانقلابات العسكرية في العالم، منذ منتصف الثمانينات، إلا أن العقد الأخير عرف عودة الانقلابات العسكرية في عدد من الدول. كان آخرها الانقلاب العسكري الدموي بمصر، وكذلك المحاولة الانقلابية الفاشلة مؤخرا في تركيا. فبعد نجاحه في التصدي للاحتجاجات المناهضة لحكومته سنة 2013، وإفلات وزرائه من قضايا الفساد قبل ثلاث سنوات، نجا الرئيس أردوغان من محاولة انقلاب، حيث عاشت تركيا ساعات عصيبة يوم الجمعة الماضي، بعد محاولة ضباط فرض الأحكام العرفية وحظر التجول في أنحاء البلاد. هذه المحاولة الانقلابية، نفذتها قوات من سلاح الجو، وعناصر من الأمن والقوات المدرعة، وطائرات مروحية حلقت فوق أنقرة، وقوات تحركت لغلق الجسور فوق مضيق البوسفور الذي يربط أوروبا وآسيا في اسطنبول. وفي الساعات الأولى من محاولة الانقلاب، أغلقت المطارات وقصف البرلمان ومقر وكالة الاستخبارات، وانقطع الوصول إلى مواقع التواصل الاجتماعي. إن ما جرى بتركيا هو انقلاب عسكري، اتّخَذ له الانقلابيون دولا مُستاءة من التجربة التركية ا كمطبخ للعمل التآمري، نتج عن تحالف قطاع صغير في الجيش والأمن التركي مع قوى خارجية. واستهدف الانقلاب بأدواته الرأي العام لتشويه الرئيس التركي وتسويغ الانقلاب. وتشابه الانقلابيون في تركيا مع غيرهم في دول العالم، باتخاذهم من الأمن القومي والديمقراطية وحقوق الإنسان ذريعة لانقلابهم على الرئيس التركي المنتخب ديمقراطيا. ولإلحاق الهزيمة بالانقلابيين، لجأ الرئيس التركي لهاتفه النقال ( الآيفون)، ليكون بذلك أول رئيس دولة يفشل انقلابا عسكريا بمكالمة عبر سكايب، دامت 12 ثانية، دعا فيها الشعب للنزول إلى الميادين رفضا للانقلاب، وسارع السياسيون إلى المطالبة بدحر الانقلاب، كما انطلقت أصوات التكبير من أبواق المساجد قبل ساعات من طلوع الفجر، فما كان من الجماهير إلا أن لبوا النداء، مُتحدين أوامر البقاء في منازلهم، من خلال التجمع في الساحات الرئيسية في اسطنبولوأنقرة، ومواجهة الدبابات بصدورهم، والتلويح بالأعلام وترديد الهتافات، وبدأ رجال الشرطة بإلقاء القبض على الجنود المشاركين في المحاولة الانقلابية. ومضت جموع حاشدة من المواطنين المجردين من أي سلاح، إلى استعادة قناة سي إن إن التركية، والجسور المقامة فوق مضيق البوسفور من قبضة العسكر. كما أظهر أردوغان شجاعة ناذرة، بعد أن استقل طائرة وتوجه إلى اسطنبول، رغم معرفته بأن مقاتلات كانت تحوم في الأجواء، وأن مدرج مطار أتاتورك كان قد أغلق. هناك أسباب كثيرة، تبارى المحللون بسردها في تفسير أسباب الانقلاب، وتتلخص في عاملين، داخلي وخارجي. أما الداخلي، فهو ما صرح به قادة الانقلاب من انحراف حكومة أردوغان عن الأتاتوركية "العلمانية" وسعيهم لإعادة هيبة العسكر، وتحكمهم بمفاصل الدولة والحياة السياسة، بعد أن قَلّم أردوغان أظافر الكثير منهم، وعمل على إعادة تدريس القرآن والحديث النبوي في المدارس الحكومية بعد تسعة عقود من الحكم العلماني. والعامل الخارجي يكمن في استشعار الدول الغربية، صاحبة الفيتو بمجلس الأمن، خطر الدولة التركية، بعد إعلان أردوغان رفضه تحكم خمس دول بالعالم، ناهيك عن غيظ الدول الأوربية وأمريكا وإسرائيل من الاقتصاد القوي والمتنامي للدولة التركية، والدور المحوري الذي أصبحت تلعبه تركيا في حل بعض قضايا العالم، ووقوف الدولة التركية إلى جانب الثورة السورية وغزة وبورما.. الانقلاب العسكري الخامس في تاريخ تركيا، فشل بعد 4 ساعات فقط. ويتساءل الكثيرون حول أسباب فشل الانقلاب. وللإجابة على ذلك، لابد من الربط بين الانقلابات العسكرية الأربع التي شهدتها تركيا، منذ انقلاب 1960، 1971، و 1980، و 1997 والانقلاب الأخير. ويمكن استخلاص أربعة أسباب رئيسية في فشل الانقلاب: 1_انقسام الجيش: خلافا لكل الانقلابات السابقة، نفذت محاولة الانقلاب من قبل عدد قليل من قيادات الجيش، في مدينتي أنقرةواسطنبول. فبعد وقت قصير على إعلان الانقلاب، ظهر جليا وجود انقسام داخل الجيش، حيث ظل القادة الكبار خارج المحاولة الانقلابية، وخاصة رئيس هيئة الأركان، وقادة الجيش البري والجوي والبحري، ناهيك عن أن نزول الانقلابيين كان عشوائيا، واعتمد على إغلاق المطار، وبعض المحاور الرئيسية في البلاد، وتفجير عدة مباني وإصدار بيان هزيل. ولعل سبب العشوائية في التخطيط، يعود إلى حرص قادة الانقلاب على الحفاظ على أعلي درجات السرية خوفا من افتضاح أمرهم. وخلافا لذلك، تمكنت الأجهزة الأمنية سريعا من استعادة السيطرة على مبنى الإذاعة والتلفزيون التركي، واعتقال العسكريين الذين اقتحموه. كما انتشرت فرق الشرطة في الشوارع وبعض الميادين، وحول الأماكن الهامة لتأمين مؤسسات الدولة، ووقف انتشار دبابات الجيش بالتعاون مع جهاز المخابرات. 2_ تاريخ الانقلابات: التاريخ الدموي للانقلابات العسكرية في تركيا، كان أحد العوامل المُحركة للشعب التركي ضد الانقلاب، فمثلا انقلاب عام 1980 انتهى بإعدام 50 شخصا، واعتقال 650 ألف شخص، ومحاكمة 230 ألف شخص، و517 حكما بالإعدام، و 299 حالة وفاة بسبب التعذيب، وانتحار 43 شخصا، وقتل 16 شخصا أثناء فرارهم، وإقالة 3654 مدرسا، و 47 قاضيا، و 120 أكاديميا جامعيا، ورصدت الأجهزة الأمنية مليونا ونصف المليون تركي كمطلوبين. 3_ التأييد الشعبي: التأييد الشعبي للرئيس التركي وحكومته ضد الانقلاب، وافتقاد الانقلابيين لأي ظهير شعبي يستندون إليه، كانا عاملين أساسيين في إفشال الانقلاب، رغم أن القوات المشاركة في الانقلاب، أصدرت أمرا بحظر التجوال وإعلان الأحكام العرفية، إلا أن الشعب نزل للشوارع وسيطر على مطار أتاتورك وطرد القوات المشاركة في الانقلاب، حيث تناقلت وسائل الإعلام مشاهد مواجهة المواطنين للدبابات العسكرية، وتراجعها أمام تقدم صفوف الجماهير، فضلا عن قدرة حزب العدالة التنمية على التعبئة وتوفره على بنية تنظيمية قوية، استطاع أن يحركها بسرعة للتصدي للانقلاب. وبخروج أعداد كبيرة من المتظاهرين بمختلف المدن، اضطر كثير من الانقلابيين إلى الاستسلام، حيث أظهرت الكاميرات مواطنين يعتلون دبابات الانقلابيين، أو يمنعون الآليات من التحرك. والأغرب من ذلك، اجتماع أحزاب المعارضة مثل " الشعب الجمهوري" و " الحركة القومية" و " الشعوب الديمقراطية " على موقف الرفض التام لأي محاولة انقلاب على الشرعية. 4_ النهضة الاقتصادية: كل الانقلابات الأربعة السابقة خلفت حالة من التردي الاقتصادي، حيث تجاوز معدل التضخم ال 130% في نهاية السبعينات، وارتفعت الديون الخارجية إلى 2.2 تريليون دولار، ما انعكس سلبا على المواطن التركي، وجعله رافض لأي سياسات حكومية انقلابية. واختلف الأمر كثيرا خلال العقد الأخير، إذ شهدت تركيا نهضة اقتصادية، في عهد حكومة "العدالة و التنمية"، ووضعت البلاد في مصاف الدول الإقليمية العظمى، بعد أن انتقلت البلاد من الرتبة 111 إلى 9 عالميا في مؤشرات التنمية، وارتفع حجم التبادل التجاري من 250 مليار دولار إلى 840 مليار دولار، أما الدخل القومي للفرد، فانتقل من 2300 دولار إلى 11000 دولار للفرد، كما تم سداد كافة ديون صندوق النقد الدولي، بل استطاعت تركيا أن تقرض البنك الدولي و حتى بعض الدول، كما ارتفعت حصة الناتج المحلي 5 أضعاف، وخفض حجم البطالة ومعدل التضخم، ورفع قيمة العملة التركية، وتحسين كافة المؤشرات الاقتصادية والظروف المعيشية لكافة أطياف المواطنين. إن الانقلابيين لم يروا حلا آخر للوصول للسلطة غير الانقلاب، ولكن هؤلاء نسوا أن الديمقراطية التركية لن توفر لهم أسباب النجاح. لقد خُيّل للانقلابيين أن انتهاك إرادة الشعب ووضع سكين الانقلاب مجددا على رقاب المواطنين أمر سهل ومباح، ولكن الشعب التركي الذي تجرع جحيم الانقلابات السابقة وذاق حياة الحرية والنعيم، انتفض مع الحكومة لإسقاط المخطط الانقلابي، فما هي إلا ساعات، حتى حسم الشعب المعركة، ونجح الأتراك، للمرة الأولى في تاريخهم الحديث، في رص صفوفهم من أجل صلاة الجنازة على حقبة الانقلابات العسكرية.