كان الوداع صعبا وكان الفراق مؤلما، وكيف لا وقد ماتت التي كان لنا في بيتها أحلا اجتماع. طويت صحفها والأقلام ما تزال تسيل، وسالت معها الدموع لتكتب على كفنها عبارات الحسرة على فقدان ام ولود وانهيار حصن منيع وانطفاء مصباح كان بالأمس خير مرشد للقريب والبعيد. موتها صدم القريب واستغربه البعيد. لا لا لن تموت ، قال احدهم، فأهلها اليوم من أهل الصولة والقوة ويملكون من النفوذ ما يمكن من ادخالها غرفة الإنعاش لتستعيد عافيتها وتعود اليها الروح من جديد. وقال آخر ، ربما خبر كاذب روجه محترفو اخبار الإثارة وما أكثرهم في زمن "البلوكاج" .. فيما توقع ثالث ان تكون الراحلة توارت الى الخلف لتفسح المجال لمولود جديد يحمل مشعلها ويكمل المسير. لكن سرعان ما جاء الخبر اليقين على لسان من بيده تقريرها الطبي قائلا : "زميلتكم "التجديد" في ذمة الله" ومضى في سرد بعض الأسباب. شيعت الفقيدة الى مثواها الأخير، في حفل جنائزي مهيب حضره الأقارب والأبعاد والأحبة من كل جانب، ولان الراحلة ليست كسائر الموتى , وزنها ثقيل لن تستطيع الأكتاف له حملا، وحجمها اكبر من ان تسعه مقابر الارض ، رفع جثمانها الطاهر وارتقى فتوزعته قلوب اهلها الصابرين، وتلامذتها المخلصين ومن اعترف لها بالفضل عليه وقت الشدة ويوم كانت تغلق في وجهه الأبواب ويبقى بابها مشرعا في وجهه ولا ترد له طلب. وهكذا إذا ستبقى ذكراها حاضرة في القلوب والاذهان، وسيكون الترحم عليها سهلا ميسرا لا تحكمه مقاييس الزمان ولا المكان. قليلون هم الذين لم يحضروا مراسيم الدفن ولم يطرقوا باب العزاء فعذرهم معهم كعادتهم، وستلتمس لهم روح الفقيدة الف عذر وزيادة، فقد عرفت قيد حياتها بذات (القلب الكبير) لا تؤاخذ كبيرا ولا صغيرا مهما اخطأ في حقها او قصر. حفل العزاء لم ينته رغم انتهاء مراسيم الدفن والدعاء للمرحومة بالغفران وافتراق المشيعين، ولن ينتهي ربما رغم إغلاق بيتها الذي لا تملكه، فقد فتحت بيوت عزاء اخرى هنا وهناك بعدد ابنائها الذين تفرقت بهم السبل في ارض الله الواسعة. قالوا عنها فقيرة معدمة، وتجارتها كانت بائرة، لم تخلف مالا ولا عقارا ولا رصيدا تتنازعه الورثة، بل وفي ذمتها من الديون ما يمنع من ان تصلى عليها الجنازة. لكن العارفين بحقيقة حالها والمطلعين على مخازن كنوزها يحكون عنها انها كانت ثرية ، وغناها اكبر من ان تحصيه ارقام محاسباتية ولا مبيانات احصائية، لا تراه الا الأعين السليمة الكاشفة، ولا تدركه الا العقول التي تؤمن ان في الحياة تجارة رابحة لا تبور ورأسمال لا مادي لا حد له ولا نهاية. اختلفوا في الأسباب، وقال بعضهم خلقت بدائها وظلت تبحث عبثا، طيلة حياتها، عن دوائها. وقال اخرون عنها محافظة متزمتة، وتلك في عالم الاعلام والصحافة مصيبة ما بعدها مصيبة. وقالت طائفة تخلى عنها أهلها وبنو عمومتها حين وهن العظم منها وتحكم المرض في جسدها. فيما وصفها بعض أهلها بالشهيدة وأشاروا بأصابع الاتهام الى الذين يتقنون فن الحصار ، ويتسللون الى غرف الإنعاش لقطع حبال التطعيم بلا شفقة ولا رحمة. أيها الباحثون والمحللون والمحققون، هذي بين أيديكم حادثة استثنائية بكل المقاييس، وتجربة غنية تستحق الدراسة والتمحيص، لكن تمهلوا قليلا من فضلكم، دعوها تستأنس بعض الوقت بمستقرها الأخير، ودعوا أهلها يستجمعون بعضا من قواهم ويستعيدون قسطا من توازنهم، فوقع الصدمة كان قويا وألم الفراق كان صعبا. وانا لله وانا اليه راجعون.