اعتدت منذ أيام قلائل المجيء إلى هذه الحديقة، بدل قتل النفس والوقت في البيت أمام التلفاز أو الاستغراق في الأفكار السوداء المتعبة، سألني جاري، صاحبي هذا الذي يجلس بجانبي، في أي يوم من أيام الله نحن !؟ حملقت في المكان والرجل بعينين زائغتين كالتائه وسط زحمة من المتناقضات، استجمعت قوتي لأجيب على سؤال مع بساطته يبدو مثل الطرح الفلسفي الذي حير الأولين والآخرين، وملأ دنيا السابقين واللاحقين بالجدل اللامتنهي، ما هو الزمن، قلت وقد أيقنت من صحة جوابي بعدما استعنت بهاتفي النقال ولم ألتفت لا يمنة لسفسطة سقراط وأفلاطون ولا يسرة عند جدلية أرسطو والفارابي ونيتشه، بكل بساطة نحن في يوم الأربعاء، صمت صاحبي ودخل في وحدة وجود مع المكان والزمان، غاص في بحر من السكينة والهدوء وكأنه نام بمقلتين منفتحتين يبحر في سر ملكوت الأربعاء المقدس. انشغلت عن الرجل أتأمل أسرار الطبيعة من حولي، جذبني فضول لأراقب أسرابا من النمل في حركة ذائبة، لا اصطدام، لا مناوشات، لا معارك، لا سرقة، لا مالك لا مملوك، الكل يشتغل، أشفقت على نملة تنوء بحمل ثقيل هدَّ كاهلها الصغير، حملت عنها حاجتها ووضعته في مدخل الجحر، عافت الحمل وعادت أدراجها تبحث عن رزق جديد غير ملوث بيد بشر، رفعت رأسي لأنشغل عن هذه النملة المغرورة المتكبرة، المصابة بهستيريا الاعتماد على النفس، ليصطدم نظري بصاحبي مازال منغمسا في شطحته الوجودية الصامتة يحرق ساعات أربعاه القدسية الطويلة في صلاة بودية متواصلة. بحثت في الأرض عن شيء أملأ به فراغي وأقتل هذا الوقت اللعين الجاثم على صدري بكل ثقله رغما عني، لاح لي من مكان غير بعيد قصاصة من جريدة ممزقة، سويتها جيدا في اهتمام زائد، إنها الصفحة الأولى عناوين كثيرة وصور أكثر لجريدة فارغة المحتوى مثل فراغ يومي هذا، حدقت جيدا لم أكد أصدق ما أرى، الموت الذي يقف عاجزا أمام هذا الشبح الجالس بجواري الغارق في الحزن والصمت، الذي يستجدي أسباب الخلاص في كل خفقة من خفقات الزمن القاسي، يمزق إربا إربا بلا رحمة ولا شفقة جسد رجل كامل الحيوية والنشاط تحت عجلات قطار سريع، يترك هذا هنا في سكرات ونزع دائمين ويذهب ليفتك بآخر، غريب شأن هذا الموت العدو الصديق، دمعت عيناي، تذكرت وفاة والدي الذي غادر هذا العالم الموبوء إثر مرض عضال لم يمهله كثيرا، خطفه القدر الرحيم شفقة به من مستشفيات الزبونية والوسائط. طويت الجريدة في صمت ثم أزلت قبعتي وخلعت نظارتي، طأطأت رأسي في خشوع منكسرا أمام هذا الجبار، قلت في لحظة إيمان طاغية لا حول ولا قوة إلا بالله، إنا لله وإنا إليه راجعون، تهافتت على ذاكرتي المشروخة في لحظة انكساري هذه صور الموت تثرى، قتلى بورما، غزة، سوريا والعراق، المنازل المنهارة على رؤوس أصحابها في فاس والبيضاء، ضحايا الشغب في الملاعب، ضحايا التصفيات الجسدية، ضحايا العنف في المظاهرات، ضحايا الترف والتخمة في المنتجعات ودور القمار والنساء والمؤامرات، ضحايا الفقر واللامبالاة في المستشفيات والحدائق العامة، ضحايا دهس القطارات، ضحايا الغرق والاختناق في مجاري المياه، ضحايا الهجرة السرية والنوم الأبدي في أعماق البحر أو الإعدام الجماعي في قلب الحاويات والشاحنات .... تساءلت مع نفسي في حوار هادئ ما معنى الموت، القبر، القيامة، الحساب، لم أفهم من كل هذه التساؤلات سوى كلمة حساب. ربما لأنها لفظة متداولة معروفة، لغة الجمع والطرح والضرب والكسر، فقلت إذا سئل القطار في يوم ما من هذا الزمن أو في غيره من الأزمنة، في هذا العالم أو في غيره من العوالم، لماذا دهست الرجل وأرديته قتيلا، سيكون الجواب حتما هو الذي دخل ليلا محميتي فهتك عرضي ودنس بقذارته طريقي وقد أعذر من أنذر، فقدرت لو سئل القتيل لماذا تخطيت حدودك وسرت في سكة الموت وأنت تعلم ذلك، لم أستطع تخمين الجواب وقلت أعوذ بالله من الشيطان الرجيم ما هذا التشبيه الذي سينزلق بي إلى الهاوية. قرب وقت خروج ابني من المدرسة، لملمت أفكاري المشتتة بسرعة وألقيت نظرة أخيرة على صاحبي المنشغل عني تماما، التائه بين جنبات الكون يسبر أغواره السرمدية في حديث نفسي صامت هادئ، تمشيت بتؤدة كبيرة لكي لا أحدث ضجيجا يخرج المتصوف الهائم من سكرته إلى وعيه الشقي، أو يخرجه من وعيه الدافئ إلى ضجيج الحياة ومسخ الأقنعة. لم أنتبه إلا والباب الحديدي قد انفتح على مصراعيه وإذا بجوف المدرسة يلفظ عشرات الأطفال من الجنسين يركضون في براءة وعفوية فرحين بالإنعتاق من أسر الفصول المغلقة الكئيبة والدروس الثقيلة، وإذا بابني بينهم يلهو حملت عنه محفظته وسرنا في الطريق، تذكرت صاحبتي النملة وكبرياءها ومن أعماق أعماق الزمن لاحت لي سير جداتها لم تتغير، نملات المحارب العظيم الإسكندر المقدوني، نملات نبي الله سليمان.... وبعد حين بادرني ابني، أنا مطالب بإعداد موضوع حول القطار ومخاطر الاقتراب من طريقه، سألني عن أشياء كثيرة هدر بها وأنا غافل عنه تائه أقلب دفاتر ذاكرتي وأنشط معلوماتي لأكتب له في الموضوع المطلوب، فجأة سمعت ابني القريب من العشر سنين يقول في حماسة طفولية لماذا لم يُسَيج القطار بقانون على غرار غيره يحمي الناس من شره، إشارات ضوئية ملزمة تضع حدا لتطاوله وتهوره في الطريق!!؟؟. أحدث هذا التساؤل المنطقي الدخيل خللا في منظومة تسلسل وسير أفكاري العادي، وعبث بكل مقومات تناسقها وانسيابها، ونبش بكل عنف في الجانب الكسول من دماغي وسلة مهملات لاشعوري التي أحيل إليها كل ما عجزت أن أفكر أو أخوض فيه بحرية وتلقائية، السرداب المظلم والصندوق الأسود الذي تتآكل في فراغه ذاتي المفكرة الواعية بسلام، لأتعايش مع قناعي المسخ، في خضوع المستسلم، المُسَلم بعقيدة الولاء مقابل الانتماء وأُساير كذبة تحولت بفعل النفاق والخبث والارتزاق إلى أقنوم من الأقانيم المقدسة .