تُعد مسألة إمامة المرأة بالرجال في الصلاة إحدى القضايا الشائكة التي تستفز وتستنفر العقل المسلم. وقد شكل حدث ظهور امرأة تؤم الرجال والنساء لحظة مفصلية بمتغير جديد يتعلق بانتقال قضية إمامة المرأة من الفكرة المحبوسة في قفص العقل ترددا، إلى الفعل الوجودي المشهود على أرض الواقع تجسدا. إن الصورة التي تشكلت في اللاوعي الجمعي للمجتمع المسلم حول قضية الصلاة هي مكوث النساء في بيوتهن، وفي أحسن الأحوال الفصل الصارم بين مسجد الرجال والنساء، في ردة عميقة عما كان عليه الحال زمن الرسول عليه السلام حيث النساء يشهدن الصلاة في نفس المسجد مع تقدم الرجال عليهن درجة. لقد مهدت الحركية الإسلامية -إن صح التعبير- في تغيير جزء من واقع تلك الصورة، بإرجاع النساء إلى حال الاشتراك في المكان بنسب متفاوتة، مع تحاشي الحديث عن قضية صادمة تتجلى في إمكانية تقدم المرأة للصلاة بالرجال، رغم طرق هذه القضية للعقل المسلم في محطات تاريخية معروفة. جاء أوضح موقف في إجازة إمامة المرأة بالرجال من محيي الدين بن عربي في "الفتوحات المكية"، حين قال: (فمن الناس من أجاز إمامة المرأة على الإطلاق بالرجال والنساء وبه أقول، ومنهم من منع إمامتها على الإطلاق ومنهم من أجاز إمامتها بالنساء دون الرجال) فأبان ابن عربي في كتابه "الفتوحات المكية" عن انحيازه الكبير لقضايا المرأة كلها ليس فقط إمامتها للرجال، وفي هذه المسألة الأخيرة كان يرد على المخالفين بقوله: "والأصل إجازة إمامتها فمن ادعى منع ذلك من غير دليل فلا يُسمع له، ولا نص للمانع في ذلك". وفي المقابل ذهب علماء إلى إجازة إمامتها للرجال بشروط، فلم يكونوا بوضوح ابن عربي في المسألة، قال الإمام الصنعاني عند إيراده حديث إذن الرسول عليه السلام لأم ورقة بإمامة أهل دارها: (والحديث دليل على صحة إمامة المرأة أهل دارها، وإن كان فيهم الرجل، فإنه كان لها مؤذن وكان شيخاً كما في الرواية". وقام الإمام الصنعاني في كتابه "سبل السلام" بإيراد الحديث الذي يستند عليه من يقول بحظر إمامتها، وهو حديث جابر "لا تؤمن امرأة رجلا"، فعلق عليه بقوله: "إسناده واه"، ثم قال: "وأجاز المزني وأبو ثور إمامة المرأة. وأجاز الطبري إمامتها في التراويح..". ولما كان الإمام ابن تيمية يقارب الموضوع قال: "ولهذا جوز أحمد –في المشهور عنه- أن المرأة تؤم الرجال لحاجة، مثل أن تكون قارئة وهم غير قارئين، فتصلي بهم التراويح، كما أذن النبي عليه السلام لأم ورقة أن تؤم أهل دارها وجعل لها مؤذنا"، ثم أورد في كتابه القواعد النورانية الفقهية قول عامة العلماء بالمنع. وبسط الإمام ابن رشد القضية في كتابه "بداية المجتهد ونهاية المقتصد" دون إقصاء لأي موقف، فقال: "اختلفوا في إمامة المرأة، فالجمهور على أنه لا يجوز أن تؤم الرجال.. وشذ أبو ثور والطبري، فأجازا إمامتها على الإطلاق"، ثم قال: "ومن أجاز إمامتها فإنما ذهب إلى ما رواه أبو داود من حديث أم ورقة". وقد اختار الإمام أبو الفرج بن الجوزي في كتابه "أحكام النساء" أن يقف موقف المجيز لإمامتها في التراويح دون الفرائض، فقال: "وتصح إمامة المرأة للرجال في موضع واحد؛ وهي صلاة التراويح –إذا كانت المرأة تحفظ القرآن والرجال لا يحفظون..". وفي اختلاط النساء مع الرجال في الصلاة لم ير الشيخ ابن الجوزي بطلان صلاتها، وإنما قال: "فإن وقفت في صفوف الرجال كره ذلك ولم تبطل صلاتها، ولا صلاة من يليها". وعند سبر مواقف القائلين بإجازة إمامة المرأة بإطلاق أو تحفظ لا نعدم أن نجد شيوخا من طينة ابن رجب الحنبلي، والزركشي، والترابي وغيرهم. نقف في ختام هذا الموضوع عند أربعة استنتاجات أساسية: الاستنتاج الأول: أن طرح مسألة إمامة المرأة بالرجال في ما مضى لم يكن بحجم الحساسية التي يتعامل بها الناس اليوم، باعتبار أن كُتب المتقدمين كانت تحتوي عموما على فصل قار بعنوان "إمامة المرأة"، وكانوا يسردون فيها المواقف الموافقة والمخالفة وحتى الشاذة. الاستنتاج الثاني: لم يستطع من قال بمنع إمامة المرأة بالرجال أن يأتي بأية قرآنية واحدة تحظر وتحسم الموضوع باعتبار القرآن مصدر الدين الإسلامي، والنص المؤسس للإسلام، فيبقى بالتالي الموضوع مباحا للاجتهاد، ولا يُطلب من القائلين بإجازة إمامة المرأة الإتيان بالدليل لأنهم على الأصل، والتحريم يحتاج لدليل. الاستنتاج الثالث: أن الأحاديث التي يستند عليها القائلون بالتحريم، فيها مطعن كبير، ونص التحريم يجب أن يكون صحيحا صريحا متواترا، وبغض النظر عن أساندها الضعيفة نجد متونها واهية. الاستنتاج الرابع: عند الرجوع إلى التاريخ القديم ومقارنته بالتاريخ الحالي يخال للإنسان أن مجتمعاتنا تتقدم القهقرة في مسار تاريخ الأفكار عوض التقدم خطوات جدية إلى الأمام. ما داموا يتفقون على إمكانية إمامة المرأة للرجال في التراويح ألا يجب أن تشكل هذه أول خطوة إلى الأمام.