أحجمت عن الكتابة بفعل انشغالاتي اليومية وابتعدت بمنأى عن متابعة هذا العبث السياسي الذي يؤرق بدسائسه وكائد شيوخه المتربعين على الزعامات الكارتونية. تمنيت صادقا أن أعيش مرحلة تنحية الشيوخ المتبجحين بالوطنية والديمقراطية، لكن وجدت في "الأحزاب العتيدة" المفهوم المتأصل للديكتاتورية بل نخب شكلت لوبيا وسدا منيعا أمام الطاقات الفياضة الطامحة إلى تجريب ترسانة من الأفكار النابعة من صميم احتكاكها وتكوينها المتجدد. إن المتأمل اليوم للفسيفساء المدني سيكتشف دون عناء ودون ذكاء أنه ثمة انصهار شبه كلي في التواطؤ المكشوف، لحسن حظي فطنت للأمر مبكرا منذ تمرد حزب الاستقلال من داخل الكتلة على عراب التناوب السياسي السيد عبد الرحمان اليوسفي وتسهيل مآمرة الانقلاب على الشرعية التوافقية دستوريا، وكيف تمردت باقي قيادات الاتحاد الاشتراكي بقبول حقائب الاستوزار في الحكومات الموالية وكيف مارس حزب العدالة والتنمية النفاق السياسي واختارت الأحزاب والتنظيمات الراديكالية سياسة الهروب الأمام ... تشكل حزب "البام" على أنقاض نسبة المشاركة المهولة في انتخابات 2002 بدهاء بليغ مستقطبا طاقات من اليمين واليسار بواجهة إشهارية قوية قادها فؤاد عالي الهمة ، انتظرنا من الأحزاب الوطنية وتلك المحسوبة على الجماهير الشعبية تاريخية إبداع أشكال جديدة لإعادة الثقة وملأ الفراغ لكن للأسف تمادت في تمسكها الدونكيشوطي بالزعامات وبمفهوم الديمقراطية المركزي بل منها من حاول نسج علاقات في الكواليس مع الوافد الجديد. شكرا للربيع العربي ولحركة 20 فبراير التي كشفت عن المستور وعجلت بالتحالفات الطبيعية ، عادت الروح للكتلة لكن بروح حفاظ الزعماء على المواقع وكشفت عن نفاق حزب العدالة والتنمية الذي اختار اللف والدوران 180 درجة بعد خطاب 9مارس وبعد تزكية الدستور الجديد،تمنيت أن تتحالف جميع الأحزاب المحسوبة على الصف الوطني والديمقراطي من أقصى اليمين إلى أفصي اليسار على أرضية برنامج حد أدنى تنتفي فيه إستراتيجية كل حزب لكن ما حدث هو تحالف كل الأحزاب الأخرى صنيعة الإدارة بامتياز. على أي حال شكرا "ل"البام" الذي لململم هذه الأحزاب الإدارية ليفهم الجميع أننا لم ننخرط بعد في اللعبة السياسية الحقة بقدر مازال الصراع السياسي صراع بين محاولات سياسية وهيمنة إدارية بامتياز، ليفهم الجميع أن هذا التحالف الجديد في نظري موضوعي عوض خلط الأوراق. إننا أمام صراع واضح المعالم بين أحزاب "وطنية" مهترئة وكيان إداري قوي ساهمت قيادات الأحزاب السالفة الذكر في بروزه. حاولت أن اقنع نفسي بمواقف الأحزاب اليسارية الراديكالية فوجدت في زعمائها عدم القدرة على فهم هذا الجيل الجديد من الشباب التلقائي ، بل يتمادى زعماؤها بقصد أو بغير قصد في اجترار خطابات ماضوية مشمئزة بل بحثت عن فعلهم عبر الشبكة العنكبوتية فوجدته محتشما عن علاقاتهم بالمحافل الدولية ومؤسسات المجتمع المدني الدولية فوجدتها فاترة، بل ما يبعث على التهكم أن بعض مناضلينا لا زالوا يؤمنون بالصالونات والمقاهي والحانات كمواقع فريدة لتصريف الخطابات الجافة بل الأدهى أن عددا لا يستهان منهم لا يعرف وضع نقرة على الشبكة العنكبوتية؟ حركة 20فبراير تركت لمصيرها بل ابتلعتها جماعات سلفية تنهج "التقية و تضع الخلافة الإسلامية ضمن إستراتيجيتها يبدو داخلها اليساريون كأقزام وسط جيش وسيل جارف محكم التنظيم يصرف شعاراته الرنانة المدغدغة لمشاعر العامة. لقد ألصقت حركة 20 فبراير بالجماعات السلفية وقد أفلحت هذه الجماعات في قلب الطاولة على الحداثيين والعلمانيين والراديكاليين، فماذا تبقى إذا؟ "البام" جمع شتات الأحزاب الإدارية من جديد والأحزاب الوطنية أنهكت ذاتيا وموضوعيا واليسار الراديكالي اختار سياسة الهروب إلى الأمام: أمام هذا الوضع سيكون "البام" من جديد رأس الرمح للتحكم في الجهاز التشريعي وبالتالي الجهاز التنفيذي إن تمكن من حصد أصوات المشاركين في الاقتراع أو سيشكل قوة تفاوضية لضم الاتحاد الاشتراكي من جديد للتحالف لتشكيل حكومة توافقية مستقبلا ليستمر النظام على شاكلة التوافق عوض الانتقال إلى النظام الديمقراطي الذي لم نعش تجربته بعد، وما نمط الاقتراع والتقطيع إلا دليل على مدى بعدنا على تجربة الديمقراطية بقائنا دوما في قاعة الانتظار، وما التحالفات السرية غير المعلنة بين الاتحاد الاشتراكي وحزب البام التي تتمثل أساسا في الصمت المريب لهذا الأخير على ما يقع لخير مؤشر على ما يحاك.