جاء الأمرُ الشرعي بقراءة القرآن الكريم على جهة الإطلاق، ومن المقرَّر أن الأمر المطلق يقتضي عموم الأمكنة والأزمنة والأشخاص والأحوال، فلا يجوز تقييد هذا الإطلاق إلا بدليلٍ، وإلا كان ذلك ابتداعًا في الدين بتضييق ما وسَّعه الله ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم.
وعلى ذلك فقراءة القرآن الكريم في المسجد وعند القبر قبل الدفن وأثناءه وبعده مشروعةٌ ابتداءً بعموم النصوص الدالة على مشروعية قراءة القرآن الكريم، بالإضافة إلى ورود أحاديثَ عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم-
1- فمن الأحاديث الصحيحة الصريحة في ذلك: ما رواه عبد الرحمن بن العلاء بن اللَّجْلاجِ، عن أبيه قال: “قال لي أبي -اللَّجْلاجُ أبو خالد-: يا بُنَيَّ إذا أنا متُّ فأَلْحِدْني، فإذا وضَعْتَني في لحدي فقل: بسم الله، وعلى ملة رسول الله، ثم سُنَّ عليَّ التراب سنًّا -أي ضَعْه وضعًا سهلا- ثم اقرأ عند رأسي بفاتحة البقرة وخاتمتها، فإني سَمِعْتُ رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقولُ ذلك”. أخرجه الطبراني في المعجم الكبير، قال الهيثمي: ورجاله موثوقون.
وقد رُوي هذا الحديث موقوفًا على ابن عمر رضي الله عنهما، كما أخرجه الخلال في جزء “القراءة على القبور”، والبيهقي في “السنن الكبرى”، وغيرهما، وحسَّنه النووي وابن حجر.
وعن ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم- يقول: «إِذَا مَاتَ أَحَدُكُمْ فَلَا تَحْبِسُوهُ، وأَسْرِعُوا بِهِ إِلَى قَبْرِهِ، وَليُقْرَأْ عِنْدَ رَأْسِهِ بِفَاتِحَةِ الْكِتَابِ، وَعِنْدَ رِجْلَيْهِ بِخَاتِمَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي قَبْرِهِ». أخرجه الطبراني، والبيهقي في شعب الإيمان، وإسناده حسن كما قال الحافظ في الفتح، وفي رواية: «بِفَاتِحَةِ الْبَقَرَةِ»، بدلا من «فَاتِحَةِ الْكِتَابِ».
2- وجاءت السنة بقراءة سورة يس على الموتى، في حديث معقل بن يسار -رضي الله عنه- عن النبي -صلى الله عليه وآله وسلم- قال: «اقْرَؤُوا يس عَلَى مَوْتَاكُمْ». رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه، وصححه ابن حبان والحاكم. قال القرطبي في التذكرة: “وهذا يحتمل أن تكون القراءة عند الميت في حال موته، ويحتمل أن تكون عند قبره”. اه.
3- كما جاء الشرع الشريف بقراءة سورة الفاتحة على الجنازة؛ وذلك لأن فيها من الخصوصية في نفع الميت وطلب الرحمة والمغفرة له ما ليس في غيرها، كما في حديث عبادة بن الصامت -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وآله وسلم-: «أُمُّ الْقُرْآنِ عِوَضٌ عَنْ غَيْرِهَا، وَلَيْسَ غَيْرُهَا عِوَضًا عَنْهَا».
4- واستدل العلماء على قراءة القرآن عند القبر أيضًا بحديث ابن عباس -رضي الله عنهما- قال: «مَرَّ النَّبِيُّ -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- عَلَى قَبْرَيْنِ، فَقَالَ: إِنَّهُمَا لَيُعَذَّبَانِ وَمَا يُعَذَّبَانِ مِنْ كَبِيرٍ، ثُمَّ قَالَ: بَلَى، أَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ يَسْعَى بِالنَّمِيمَةِ، وَأَمَّا أَحَدُهُمَا فَكَانَ لَا يَسْتَتِرُ مِنْ بَوْلِهِ. قَالَ: ثُمَّ أَخَذَ عُودًا رَطْبًا فَكَسَرَهُ بِاثْنَتَيْنِ، ثُمَّ غَرَزَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا عَلَى قَبْرٍ، ثُمَّ قَالَ: لَعَلَّهُ يُخَفَّفُ عَنْهُمَا مَا لَمْ يَيْبَسَا». متفق عليه.
5- ومن الآثار في ذلك عن السلف الصالح ما أخرجه ابن أبي شيبة في المصنَّف عن الإمام الشعبي -رحمه الله- قال: “كانَتِ الأنصارُ يقرؤون عند الميِّتِ بسورة البقرة”، وأخرجه الخلال في “القراءة على القبور” بلفظ: “كانت الأنصارُ إذا مات لهم مَيِّتٌ اختلفوا إلى قبره يقرؤون عنده القرآن”.
حتى إن الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى -وهو الذي ادَّعى أن قراءة القرآن على القبر بدعةٌ مخالفًا بذلك ما عليه عمل السلف والخلف- قد ذكر أهل السير في ترجمته أن الناس اجتمعوا لختم القرآن له على قبره وفي بيوتهم كما ذكره ابن عبد الهادي الحنبلي وغيره، والتاريخ محنة المذاهب كما يقولون.