لسخرية الأقدار أننا لا زلنا في الوقت الراهن نقبل ببعض الظواهر في حياتنا العمومية ولا نكلف أنفسنا عناء السؤال عن جدواها وعن مبررات وجودها ومشروعيتها ، وكأنها أمر واقع ولا سبيل إلى زحزحتها وإخراجها إلى دائرة الأضواء والمسائلة ؛ التفرغ النقابي واحدة من هذه الظواهر والتي أصبحت مألوفة وتحظى بهالة من المصداقية والتشريف وتتعالى عن أي محاسبة . من هو المتفرغ النقابي ؟ . ببساطة وبلا تعقيد في الكلام ، المتفرغ النقابي موظفٌ شَبَحٌ ، ينتمي إلى عالم الموظفين الأشباح الذين يُثْقِلُونَ كاهل مُوازنة بنك المغرب دون أن يستفيذ منهم المغاربة بأي شيئ . ومن هو الموظف الشَّبَحُ ؟ . عادة نتحدث عن الموظفين الأشباح وكأنهم فقط أُناسٌ ينتمون إلى الوظيفة العمومية ولا يُباشرون وظائفهم بسبب كَسَلِهم أو استهتارهم بمسؤولياتهم أو لأن لهم روابط عائلية أو ولاءات داخل الإدارة العمومية تُجَنِّبُهُمْ المتابعة والإستفسار ؛ هذا تفسير خاطئ للموظف الشبح لأن الحكاية أبعد مما نظن ، فكثير من المحاولات الحكومية فشلت في الحد من هذا الشَّبَح ومحاصرته لأنها اصطدمت بالباب العالي . الموظف الشبح ليس هو ذلك الشخص المتقاعس عن أداء وظيفته ، الموظف الشبح موظف مُعَارٌ من الوظيفة العمومية لتأدية خدمات لصالح جهات لا يعلم سِرَّها إلا الله .
ومن هو المتفرغ النقابي ؟ . كلنا يعرف تلك الشريحة من الأعوان الذين تُعَيِّنُهُمْ السلطات الإقليمية ليكونوا عُيونا يقظة لا تنام لالتقاط الصغيرة والكبيرة ولممارسة الوصاية والرقابة على باقي العيون التابعة للقيادات والمقاطعات ؛ مهمة المتفرغ النقابي تشبه تماما مهمة هؤلاء الأعوان ، إنه شَيْخٌ مُتَجَوِّلٌ ، شيخ نقابي متجول يملك اليد الطويلة داخل النقابة ، يَهابُه ويَحْطَاطُ منه النقابيون الذين أوصلتهم أصوات الناخبين النقابين إلى موقع المسؤولية ، الكل يُطَأْطِؤُ رأسه أمام المتفرغ النقابي ليتجنب أذاه ولينال رضاه . المتفرغ النقابي يَصُولُ ويجول في دهاليز النقابة بالبطاقة البيضاء ، هو من يُفَصِّلُ ويَخِيُط ويُرَكِّبُ مكاتب الفروع النقابية بالشكل الذي يُثْلِجُ صدر الديناصورات النقابية لينال بدوره ثقتهم ومباركتهم حتى يظل ويستمر في تفرغه لخدمة النقابة باب الرزق والنعمة بلا حساب .
ومن هو المتفرغ النقابي أيضا ؟ . المتفرغ النقابي سمسار ومتاجر في مشاكل الناس ، طفيلي مرتزق يقايض مآسي الآخرين بمآربه الشخصية ، يستثمر إسم النقابة ويستنزف المال العام لقضاء احتياجاته ، يسيئ للنضال الجماهيري ويلطخ سمعة العمل النقابي وسمعة النقابيين الشرفاء ؛ المتفرغ النقابي هو من يتصدر واجهة النضال النقابي ، وهو من يعتلي المنصات والمنابر ليلهب الجماهير بالخطب النارية وينتصب في مقدمة المسيرات والوقفات الإحتجاجية ، وهو من له الإمكانية للتنقل وحضور الإجتماعات والمؤتمرات وربط الإتصالات وتبوءِ المناصب والمسؤوليات بحيث لا يترك مجالا للمنافسة ، فيصبح هو النقابة والنقابة هي هو في نظر الجمهور وعند من لهم مصالح نقابية وعند السلطات . أليس هذا بالضبط ماتشتهيه السلطة لتمارس رقابتها على النقابات ولِتَتَبُّعِ نبضاتها الداخلية ، وإلا لكانت الدولةُ ألغت رواتب المتفرغين في سياق ترشيد نفقات الدولة في القطاعات الغير منتجة التي تطالبُ المغربَ بها المؤسساتُ المالية العالمية الدائنة ؟ .
يُعتبر التفرغ النقابي جزءا من مَنْظُومَةِ الرِّيعِ التي يعاني منها المغرب والمغاربة ، فهذه الوظيفة تُمَوّلُ من المال العام ، من أموال دافعي الضرائب وليس من خزينة النقابة التي يشتغل لحسابها المتفرغون النقابيون . التفرغ النقابي يندرج ضمن لائحة رخص الإمتياز شأنه في ذلك شأن رخص النقل والمقالع والتسويق ... إلخ والتي تُجْمِعُ كل القوى السياسية التقدمية على مناهضتها ورفضها ، بل إن التفرغ النقابي قد يكون أقبح أنواع تلك الإمتيازات ، لأن المتفرغ النقابي يتقاضى مُرَتَّباً من الخزينة العمومية زائد رخصة التفرغ ، في حين لا يتقاضى المستفيذون من رخص الإمتياز الأخرى أية مُرَتَّبَاتٍ من المال العام ، هذا جانب ، أما الجانب الآخر فيتمثل في كون المتفرغ النقابي يتحول إلى بارون القطاع النقابي وتتحول النقابة التي ينتمي إليها ، والتي هي ملك عام ، إلى ضيعة يتصرف فيها كما يحلو له وبلا لجام يلجمه ؛ كم من متفرغ نقابي انتقل من موظف بسيط إلى مليونير صاحب أملاك ومشاريع ونفوذ ... وحكايات ؟؟؟ .
الأسرة النقابية ترى في التفرغ النقابي إحدى مكتسبات الحركة النقابية المغربية وهو ذات الرأي الذي يقتنع به المتفرغون النقابيون ويمثل لديهم مصدر المشروعية لممارسة هذا النشاط بكامل الإطمئنان والثقة في النفس ، في المقابل لا أحد استفتى رأي المواطن المغربي دافع الضرائب في هذا الموضوع والذي لا تصله خدمات الهيئات النقابية لا من قريب ولا من بعيد . يعلم الجميع أن النقابات لا تهتم إلا بالموظفين 2
بالموظفين والأجراء ، أو بتعبير أَبْلَغْ ، بالمنتسبين إلى القطاعات المهيكلة في حين أن القطاعات الغير مُهَيْكَلة هي التي تستوعب الأغلبية الساحقة من القوة النشيطة في المجتمع والتي توجد خارج جميع أنواع التغطيات منها التغطية النقابية ، معنى هذا الكلام أن التفرغ النقابي الذي يسميه الخطاب النقابي مكسبا هو مكسب فقط للأجراء أما عند باقي الشرائح الإجتماعية المهملة فهو امتيازٌ غير مشروع وصنفٌ من أصناف الرِّيعِ وتَرَامِيٌّ على الملك العام . لذلك يكون لزاما على الأحزاب السياسية المنادية بتخليق الحياة العامة مراجعة موقفها من مسألة التفرغ النقابي وأن تتحلى بالجرأة لتطهير أروقتها من المتفرغين النقابيين ودعوتهم إلى العودة إلى مواقعهم الأصلية ، فالعمل النقابي مجهود نضالي صرف من ملحقات المهنة وليس مهنة يزاولها المناضل من أجل قوت يومه . العيب ليس في المتفرغين النقابيين بل العيب في الهيئات السياسية التي تتبنى ظاهرة التفرغ النقابي في الوقت الذي لا تكل فيه من توجيه جميع سهام النقد إلى منظومة الريع والفساد السياسي وهدر المال العام ونسيت الحكمة التي تقول : إن من يسكن دارا من زجاج لا ينبغي له قذف الناس بالحجارة .
ليس المقصود من توجيه النقد إلى التفرغ النقابي هو رفض هذا الشكل من الأنشطة بإطلاق ، لكن المرفوض هو استعمال الواجهة النضالية لشرعنة الفساد والمساهمة في ترسيم وتعميم منظومة الرِّيع مِنْ جهة مَنْ يُنْتَظَرُ منه أن يكون في مقدمة المناهضين لاستغلال الملك العام في الصراع الإجتماعي وعلى رأس المحاربين لظاهرة الموظفين الأشباح ، بل إنني أُثمن كل مبادرة من طرف النقابات والأحزاب السياسية والجمعيات الأهلية للمساهمة في امتصاص البطالة بتشغيل الشباب في الإحتراف النقابي والسياسي والجمعوي على حساب ميزانيتها الخاصة وليس من خلال الميزانية العامة للدولة ، بهذا الشكل تتوفر إمكانية المتابعة والمحاسبة في حق هؤلاء الإحترافيين وفي المقابل يتحسن آداء تلك الإطارات المُشغِلة و تُعَمَّمُ الفائذة ، وبهذا الشكل أيضا تصون استقلالية قراراتها ومواقفها وكرامة مناضليها .