هيأت أوراقي، حشدت آرائي، أخرجت أقلامي من كنانتها العتيدة، نسجت حبال أفكاري؛ وحاولت اجترار ما في اللب من رسائل مخزنة؛ وما في عروق الأنامل من جودة صياغة، ثم بكل رباطة جأش، بدأت بخط ما تيسر من أسطر أدبغ فيها جلد موازين وآله ومنظميه وداعميه وحاضريه وناظريه، أنتقد فيها من حمل لواء الثقافة المطرز بالسخافات من كل جانب، من وقف على قمة جبل أعلى من "التوباد"، ونادى في الناس بالحج يأتوه عراة وعلى كل “هامر” يأتين من كل فج عميق، ليشهدوا موائد هيِّئت لهم، ويشكروا من هيأها، ويسخروا ممن دفع الثمن بساعة زمن من التفاهات، ليتقاضوا مبالغ تعجز عن تِعداد أصفارها أجود أنواع آلات الحساب، ثم يرحل كل إلى مِصره، محمِّلا أمتعته بكنوز أصيلة، وفؤاده بعواطف جياشة تجاه شعب مضياف لا يفوقه كرما إلا "الطائي" وبعض أهله، شعب مغربي طيب القلب، سمح الخلق، بشوش الملامح، أثر رغد العيش الذي يتمرغ في أحضانه بادٍ على محياه، يرقص فرحا، ويصفق إجلالا، ويتهافت ليأخذ من أثر النجوم قبضة، وكذلك سولت له نفسه. من أين نبدأ في الحديث عن ذاك “الكولوسيوم” الجديد الذي احتل الأرض وشغل الناس، أنخاطب من يحكموننا فنقول: غيبتم ميزان العدل فصار تقبيل نعال الوكلاء وسيلة للنجاة من عقاب ذنب لم يقترف، وجنحة لم ترتكب. وغيبتم ميزان الحكامة فأثخنتم جيوب الغني حتى توردت وجنتاه غبطة، ونخرتم مدخرات الفقير حتى اضمحلت. غيبتم ميزان العقل فاستحال قائل الحق سفيها أو متآمرا حركته أجندات الخيانة. غيبتم ميزان الحصافة فاعتقلتم المنطق، وأطلقتم للإعاقات الفكرية ألف عنان… ثم مضيتم إلى دهاليزكم المظلمة فخلطتم كل ميزان بسابقه لتضيفوا إليه فذلكاتكم الكلامية وألفاظكم الهلامية، لتنتجوا لنا “موازين” من أجل حضوره نحيا، وللافتخار به نعيش، وعلى منهاجه نمضي.
أم نتحدث عن ملايير حولت إلى أصعب العملات، لتكدس في حقائب براقة وتهاجر بعيدا عن عيون أحاطتها هالات الفقر السوداوية حتى استحالت كقطع الليالي السرمدية. عن ملايير لو سلكت سبيل التنمية لأشرقت شمسها التي ملت الغروب.
أنتحدث عن من لعلع صوته في البرلمان، وصدع صوته بين جدران القاعة أيام المعارضة الأولى، أبرق أرعد، أَرْغَى وأزبد، مطالبا بكف تنُّور “موازين” الذي تقاذفُ فوهَتُه حِمَمَ الفساد، لكنه اليوم وقد توضأ من نهر السلطة الجارف، مُنحت له “لصاقة بلاستيكية” عالية الجودة خُتم بها على سمعه وبصره وما فَضَل من بقايا ضميره.
أنكتب متسائلين عن قوات أمن عمومية، حضرت بكل ما توفر من تلويناتها لتحمي “ماتيريال شاكيرا”، وحنجرة “ريحانا”، وقصة شعر “وليد توفيق”، حلت لتسهر على راحة المتفرجين “المثقفين” الذين قدموا من كل حذب لينهلوا من ينابيع المعرفة التي تفجرت من خشبة “السوسي” ومثيلاتها. ذات القوات التي وقفت وقفة متفرج محترف قبل شهور، حين عاث شرذمة من المراهقين فسادا في الأرض، خربوا كسروا، دمروا خاص الممتلكات وعامها.
أنضع ألف علامة استفهام حول تنظيم زعيم مهرجانات المغرب في وقت الامتحانات الدراسية، والغاية من ذلك. ونستفهم: أليس في أيام الحول غير ذا الوقت الحساس لتقديم المجون والصخب؟ ستجيبون يا معالي المنظمين بوقاحتكم المعهودة وبلغتكم الخشبية الصدئة: “تلك فترة تفرغ الفنانين الوحيدة يا حضرة المتذاكي”، أرُد: بل تلك حلقة جديدة من مسلسل “تضبيع” الشعب يا سادة.
أنسائل من آثر إكثار سواد المحتفلين أسئلة شبه استنكارية فنقول: كيف ترقص على أنغام “آل جاكسون” وأنت تعلم أن آلاف الأطفال في جبال الأطلس المنسية، يرقصون ارتعادا من جراء برد نخر عظامهم الهشة، واحتل أجسادهم الصغيرة؟. كيف تهلل تحية ل “جيسي جي” وفي آذانك أصوات عشرات النساء اللائي اضطرهن الإهمال إلى مخاض ثم ولادة على باب مستشفى، أو على الكرسي الخلفي لسيارة أجرة !!!. كيف تتراكض وراء “الفنانين” للحصول على “أوتوجراف” تذكاري، وأنت تشاهد كل يوم مئات الشباب المعطلين يركضون هربا من عصي مخزنية تكسر الأضلاع وتهشم الجماجم، لا لشيء سوى لمطالبتهم بعمل يؤمن العيش الكريم. كيف تحيّْي “ بيونسيه” أثناء خروجها من الفندق ذي النجوم العديدة، وبعض بني جلدتك اتخذوا المراحيض العمومية مسكنا ومأوى.
ندري بأن أسطرنا لن تغير من الأمر شيئا، فموازين انطلق رغم خشم المعارضين، نصبت منصَّاته؛ دوت أبواقُه ودقت طبولُه، انطلق ليشهد حضور آلاف “المثقفين”، ليستقبل عشرات “المبدعين”، ليوزع آلاف الملايين. ندري بأن العديدين سيصفوننا بالمتحجرين أعداء الفن والثقافة، نقول: إن كان الغناء بلباس البحر فوق المنصات فنّا فسحقا للفن وألف تبٍ للثقافة، ولنا الفخر في تسجيل أسمائنا في مقدمة لائحة مواطني العصر الحجري… ما دامت لنا الأقلام ولوحات المفاتيح سياطا، ما دامت لنا الأوراق والصفحات ساحات وغى. ما دام في الجسد عرق ينبض، وما دامت في الكف أنامل تحمل اليراع، سننقشها على جبين الحق خالدة بأحرف تأبى الاضمحلال، إرحل “موازين” فلن نلبس ثوب الزفة في المآتم، ولن نصير كائنات راقصة ترضع الفرح المزور من أثداء الفساد، إرحل وعارك في يديك إرحل…إرحل…