مشكلة الأنظمة العربية أنها لا تمتلك روحا رياضية على الإطلاق. إنها أنظمة تنتصر على شعوبها باستمرار، لكنها لا تعرف كيف تتقبل الخسارة ولو لمرة واحدة. ففي تونس، وبمجرد أن مالت الكفة لفائدة الشعب، انسحبت الشرطة من أجل خلق الفوضى، بل صار أفراد الشرطة بدورهم يمارسون السلب والنهب ويقتلون الناس من فوق أسطح العمارات ويستعملون سيارات الإسعاف من أجل دهس الناس وإطلاق النار عليهم. حاكم تونس الهارب، الجنرال بنعلي، كان ينتصر كل يوم على شعبه طوال 23 سنة من حكمه، لكنه لم يعرف كيف يخسر لمرة واحدة في حياته. في مصر حدث الشيء نفسه، لكن مع فارق خطير وهو أن «السيبة الأمنية» في تونس بدأت مع هروب بنعلي، بينما في مصر بدأت بينما «الفرعون خُوفو» لا يزال في السلطة. غريب حقا أن يقول مبارك إنه لا يزال رئيسا للبلاد، بينما الشرطة تخلق الفوضى. وفي مدينة مصرية، قبض الناس على مسلحيْن أثناء قيامهما بمهاجمة بنك، فاكتشفوا أنهما من الشرطة السرية، ثم ضبطوا سيارات إسعاف تقتل الناس وداخلها بوليس. ما جرى في تونس ومصر له أيضا أهداف أخرى، وهي توجيه تحذير إلى كل الناس بأن الثورة على الحاكمين مسألة في غاية الخطورة، وأنه من الأفضل العيش في «حكْرة» الحكّام على العيش تحت هيمنة الفوضى وقطاع الطرق. لكن ما ينساه أصحاب هذه النظرية أن الحكام الفاسدين هم قطاع طرق من الدرجة الرفيعة، فقطّاع الطرق العاديين ينهبون أشياء بسيطة، وأحيانا يقتلون، لكنهم لا ينهبون الملايير ولا يتلاعبون بالصفقات الضخمة ولا ينشئون المقابر السرية لآلاف الضحايا، ولا ينوّمون الناس بالوعود الكاذبة، لذلك من الأفضل أن يعيش الناس فوضى أمنية محدودة ثم ينتقلوا إلى عهد حر وكريم، عوض أن يبقوا الدهر كله يعيشون تحت «حكْرة» حكام لصوص وفاسدين. خلال انتفاضة مصر، أظهر التلفزيون عددا من الشباب قيل إنهم لصوص وقطاع طرق، ومن بينهم أشخاص اقتحموا متحف مصر للسطو على بعض محتوياته. شيء مرعب حقا أن يفكر الناس في نهب متحف، لكن المشكلة أن هناك مسؤولين ظلوا لسنوات طويلة يهربون آثار مصر إلى الخارج ويقبضون ملايير الدولارات مقابل ذلك، وهناك سياسيون معروفون جدا في مصر بنوا مجدهم المالي والسياسي عبر تهريب آثار بلادهم. كيف، إذن، يتم القبض على لصوص بضعة تماثيل، بينما الذين باعوا تاريخا بكامله ينعمون بالثروة والنفوذ؟ هناك مسألة أخرى حدثت في تونس ومصر معا، وهي فرار آلاف السجناء. ويخطئ من يظن أن ذلك مجرد صدفة. فالنظام الذي يحس بأن نهايته اقتربت وأن هناك ضغطا شعبيا كبيرا عليه، يفعل كل ما يستطيع لكي يلهي الناس بأي شيء. لذلك فهرب السجناء له هدف واضح، أي أن الناس يجب أن ينسحبوا من الميادين العامة والساحات والمظاهرات الكبرى وأن يلتحقوا بمنازلهم لحمايتها من اللصوص الصغار. الرسالة واضحة جدا.. أتركوا اللصوص الكبار في حالهم واذهبوا لحماية منازلكم من اللصوص الصغار. سبب ما يجري من فوضى أمنية، سواء في تونس أو مصر، هو أن ما جرى هو انتفاضات شعبية وليس ثورات بالمعنى الحقيقي للكلمة. فالثورة تتوفر على منظرين ومنظمين بارعين وفيالق شعبية تحميها ونخبة مستعدة لتولي الحكم في أية لحظة. أما الانتفاضات فإنها هبّات شعبية عفوية تتعرض للكثير من المؤامرات والخذلان ومحاولات الالتفاف وتمويه الناس والكذب عليهم وتخويفهم والتلاعب بأعصابهم وعواطفهم. في كل الأحوال، لا نظام بنعلي في تونس ولا نظام مبارك في مصر نجحا في تنويم الشعب وترضيته بالأكاذيب، فالأنظمة «كامونية» جدا، أي أنها «كتْخاف ما تحشْم». فما الذي كان يمنع، مثلا، الجنرال بنعلي من الإعلان عن انسحابه من الحياة السياسية قبل انتفاضة الشعب؟ ولماذا لم يختر مبارك أن يتقاعد ويترك مكانه لغيره؟ لماذا كل هذا الجنون بالحكم؟ لماذا كل هذا الاحتقار لشعوب تحولت إلى مجرد قطعان في ضيعات عائلية، شعوب تعيش كل أنواع المهانة، الاختلاسات والقمع وفساد القضاء وتردي الخدمات والغلاء الفاحش.. وأشياء أخرى كثيرة. من كان يصدق أن كل هذا سيحدث؟ من كان يظن أن شعوبا عربية قيل إنها ماتت ودفنت ستخرج من القبر وتنتقم من قاتليها بهذه الطريقة العنيدة والسريعة؟ الشعوب يمكنها أن تنام.. تنام طويلا.. طويلا جدا.. لكنها لا تموت أبدا..