لا يتذكر الناس تفاصيل كثيرة عن انتفاضة الصينيين بساحة «تيان آن مين» سنة 1989، لكنهم لا ينسون طبعا صورة متظاهر صيني وهو يعترض وحيدا طريق دبابة ويحمل وردة.. تلك الصورة ستظل حية إلى الأبد. وعندما غزت أمريكا الفيتنام، صدرت حولها آلاف الكتب والأفلام، لكن هناك صورة فريدة لطفلة عارية تماما وهي تسير مرعوبة تحت بنادق الجنود الأمريكيين بعد أن تم قصف قريتها بالنابالم. الثورات والانتفاضات صارت تؤرخ لها الصور أكثر من الكلمات. وفي تونس، لن ينسى الناس صورا ولقطات.. ستظل خالدة في أذهانهم. وفي مصر، هناك لقطات وصور بمثابة ألف كتاب. أكثر الصور بلاغة في انتفاضة تونس صورة ذلك الرجل «المخبول» الذي يحمل في يده «كوميرة» ويتموقع مثل جندي حقيقي وهو يوجه «كوميرته» نحو العشرات من أفراد الأمن المدججين بكامل أسلحتهم وعتادهم. هناك أيضا صورة ذلك العسكري الذي وقف يؤدي تحية عسكرية صارمة لجنازة أحد ضحايا الانتفاضة. هناك صور أخرى لمتظاهر يتناقش مع عسكري تونسي، يمتد النقاش قليلا ثم يتصافح الرجلان.. تلك اللقطات كانت بمثابة بداية النهاية لنظام بنعلي الساقط. في تونس أيضا، فيديو شاهده الملايين على التلفزيون وشبكة الأنترنيت. صورة رجل وحيد في شارع فسيح بتونس يهتف بالمجد والسؤدد للتونسيين الأبطال الذين انقضوا على نظام فاسد. الناس لن ينسوا عبارة الرجل وهو يصرخ لوحده «بنعلي هرب.. بنعلي هرب. نظام مبارك الساقط لم ينج أيضا من كثير من الصور واللقطات التي ستؤرخ لبشاعته. أكثر اللقطات بشاعة هي لسيارات أمن تدهس متظاهرين كما لو أنهم حشرات. هذه اللقطات لوحدها كان يجب أن تسقط النظام في ربع ساعة، لكن مبارك المريض، الذي يسير نحو التسعين عاما، ظل متمسكا بعرش مصر مثل أخطبوط. في انتفاضة مصر لقطات أخرى مثيرة ستظل راسخة في الأذهان، من بينها لقطات متظاهرين وهم يؤدون الصلاة فوق أحد الجسور، بينما سيارة شرطة تمطرهم بمياه قوية وهم لا يتزحزحون عن الصفوف. أحيانا تكون بعض الصور بمثابة تنبؤ بما سيحدث مستقبلا، وعندما انتهت انتفاضة مصر بانتصار الشعب، تذكر الكثيرون أن تلك الصورة كانت رمزا لصمود لم يتوقعه الكثيرون، إنها رمز العناد والتحدي. من بين أقوى اللقطات قوة، وبشاعة أيضا، في انتفاضة مصر، لقطات لذلك الرجل الشهم الذي كان يقف وحيدا في شارع خال، وحوله أفراد من الأمن. فتح الرجل «جاكيتته» مبرزا صدره كنوع من التحدي المسالم لأفراد أمن لا يتورعون عن إطلاق الرصاص كعلامة جبن ونذالة. فجأة، سقط الرجل أرضا وارتفع الصراخ من حوله.. قتل الرجل المسالم برصاص بوليس جبان وترك خلفه أطفالا في عمر الزهور. رغم كل ذلك، ظل الفرعون مبارك يصر على البقاء.. يا له من حمق غريب أصاب ذلك الرجل. إن نسي العالم شيئا في انتفاضة المصريين فلن ينسى صور أولئك البلطجية وهم يقتحمون ساحة التحرير.. كانوا يركبون جمالا وبغالا وحميرا، وهذه الحيوانات أفضل بكثير ممن كانوا يركبونها، وستظل هذه اللقطات تطارد نظام مبارك أبد الدهر. هكذا رحل مبارك وهو يستحق صفة واحدٍ من أسوأ حكام العصر الحديث، فهو الحاكم الذي قطع عن شعبه الكهرباء والهاتف والأنترنيت، وهو الذي حرض ضده أصحاب السوابق وأطلق المساجين الخطرين لترويع المنتفضين. في انتفاضة مصر، رفع الناس صورة عملاقة لمبارك على شكل تمثال حجري عتيق يتكسر من فرط قِدمه. هناك صورة أخرى لرجل وزوجته وأطفاله تركوا كلهم منزلهم وجاؤوا للاعتصام في ساحة التحرير. عندما يصل العناد من أجل الكرامة إلى هذا الحد، فلا أحد يمكنه الوقوف في طريق الناس. في انتفاضة مصر الكثير جدا من الصور للافتات برع فيها الناس في تصوير ما يختلج في صدوهم تجاه حاكم جثم على صدورهم مثل الكابوس طوال ثلاثة عقود. المؤرخون الذين يستعدون اليوم لكتابة تاريخ انتفاضتي تونس ومصر وانتفاضات البلدان العربية المتبقية، يجب عليهم ألا يكتفوا بالكلمات على صفحات جامدة.. فالتاريخ اليوم هو تاريخ الصورة.. ثم بعدها تأتي الكلمة.