عندما يضع الحاكم المغضوب عليه رجله الأولى في الطائرة من أجل الرحيل، فإنه يلعب آخر أوراقه ويقول للشعب الغاضب إنه سيقيل الحكومة وسيجري انتخابات نزيهة وسيحاسب المذنبين. إذا صدق الشعب هذه الأكذوبة الأخيرة، فإن الحاكم يتنفس بعمق ويسوي ربطة عنقه ويعود من باب الطائرة لكي ينكل بالشعب بطريقة أكثر قسوة، أما إذا استمر الشعب الغاضب واقفا وواصل مطاردة حاكمه الفاسد، فإن هذا الأخير يقفز مسرعا نحو الطائرة ويغادر. هذا ما حدث في تونس، البلد العربي الذي دخل تاريخ العرب من أوسع أبوابه لأنه أول شعب يطرد حاكمه في ثورة سلمية وعنيدة... أخيرا فعلها شعب عربي. أكثر الناس تفاؤلا كانوا يستبعدون أن يحدث ما حدث في دولة عربية، وأكثر من ذلك، لم يكن أحد يتوقع أن يحدث ذلك في تونس بالضبط، لأنها بلد محكوم بقبضة حديدية، أو هكذا يقال دائما، مع أن الشعوب حين تتحرك فإنها تحول أعتى القبضات الحديدية إلى مجرد قبضات من ورق. التونسيون استقبلوا الجنرال زين العابدين بنعلي في أحد أيام فبراير 1987 بتفاؤل ممزوج بالحذر، لأنه أزاح عن ظهورهم حكما ثقيلا للراحل الحبيب بورقيبة، ومع مرور الأيام صار بنعلي يأخذ شكل بورقيبة، وربما أسوأ، لأن بورقيبة عندما مات لم يجدوا في حسابه البنكي غير بضعة دنانير. كان رجلا مهووسا بالحكم ومصابا بجنون العظمة، وليس بمراكمة الثروات وتقسيم البلاد غنيمة بين أهله وأصدقائه. زوجة بنعلي تحولت هي وأفراد عائلتها إلى حكام فعليين للبلاد، وانتشرت رائحة الفساد بقوة، وبعضه ترويه وثائق «ويكيليكس»، عن هذه الزوجة التي جعلت زوجها الرئيس يلبس زيه الرياضي ويلعب مع أحفاده في القصر الرئاسي، بينما تحكم هي وإخوتها وأقاربها. الوثائق وصفت أيضا، وعلى لسان دبلوماسيين أمريكيين، عائلة الرئيس المخلوع وزوجته ليلى بأنها تشبه المافيا، وأن أفرادها يفعلون ما يحلو لهم في البلاد. وأفظع شعور يمكن أن تحس به الشعوب هو كونها قطيعا في ضيعة كبيرة تمتلكها مافيا. وثائق «الويكيليكس» حكت أيضا حكايات كثيرة عن تونس، عن زوجة الرئيس التي أرادت تزويج ابنة أختها لحاكم خليجي، وكيف أن أرملة عرفات كشفت المستور واتصلت بالزوجة الأولى لذلك الأمير، والتي لم تكن سوى شقيقة حاكم عربي آخر، وتحولت القصة كلها إلى واحدة من حكايات ألف ليلة وليلة. أكيد أن التونسيين قرؤوا ذلك، وأحسوا بما تسميه شعوب المغرب العربي «الحكرة»، وانضاف كل شيء إلى بؤس المعيشة وشظف العيش وقمع الحريات، فكان لا بد أن يحدث شيء ما. خلال انتفاضة تونس، سمع المنتفضون الكثير من الإهانات، تمت تسميتهم بالمجرمين والإرهابيين واللصوص، وقيل إنهم يتحركون بأوامر خارجية، وإنهم حفنة من المرتزقة، وفي النهاية ركب الرئيس بنعلي طائرته وغادر نحو باريس، هذه العاصمة التي يصلها كل الحكام الأفارقة الذين ترميهم شعوبهم. لكنها رفضت استقباله بسبب الحرج، رغم أن فرنسا لا تجد أي حرج في أن تبيع للأنظمة الدكتاتورية الرصاص الحي والقنابل المسيلة للدموع لقمع المظاهرات، ثم تنادي باحترام حق الشعوب في التعبير عن رأيها. يا له من منافق داهية هذا البلد الذي اسمه... فرنسا. التونسيون مغرمون بالكرة، وهم كانوا يحلمون من قبل بالفوز بكأس إفريقيا للأمم، وحصلوا عليها سنة 2004، واعتبروا ذلك إنجازا عظيما. وبعد ذلك حلموا بتنظيم كأس العالم، لكن ذلك كان مستحيلا، لكن ها هم اليوم يفوزون بكأس العالم الحقيقي، كأس الكرامة الذي تربحه الشعوب العنيدة. لكن في تونس حدث أيضا درس كبير على هامش الانتفاضة، وهو أن الشعوب حين تفتقر إلى قيادات حقيقية بديلة فإنها تجد صعوبة كبيرة في السير حتى النهاية. فالتونسيون حققوا هدفهم الأول وهو طرد عائلة احتكرت كل شيء وحولت البلاد إلى ضيعة عائلية، لكن تغير الأشخاص وبقيت وجوه كثيرة من العهد الذي أراد التونسيون القضاء عليه. هناك أيضا مظاهر الفوضى التي تحركها الأيادي الخفية، من أجل أن تزرع في نفوس الناس اقتناعا مفاده أن العيش في «حكْرة» قبيلة بنعلي أفضل من الفوضى العارمة وانعدام الأمن. أصعب ما في تونس ليس ما مضى، بل ما سيأتي..