يتباهى اليوم زعماء العالم من الإمارات العربية المتحدة شرقا إلى الولاياتالأمريكيةالمتحدة غربا بإصلاح منظوماتهم التعليمية وتطويرها، فتشريح الأزمة في النظام التعليمي دليل قوة وحركية المجتمع، ولم تكن علامة ضعف أبدا. وما يصلح لهذا الجيل لن يصلح بالتأكيد للجيل القادم، ولكل عشرية مناهجها وطرقها البيداغوجية والديداكتيكية وأنماط تفكيرها. والتجديد المستمر والدوري مطلوب ومرغوب. في بلدي المغرب ومنذ الاستقلال خضعت القضية التعليمية لتجاذبات شديدة ، وكان أن أنتجت التعميم والتعريب وحفنة من اليساريين الرديكاليين، فكان لزاما تغيير دفة التوجيه زمن الثمانينات يمينا بعدما لاحت أولى بشائر تفكك القطب الشيوعي العالمي في عالم كان كل شيء فيه يقاس بميزان القوتين العظميين آنذاك ،وحينما أتى الميثاق الوطني للتربية والتكوين نهاية التسعينات ليعالج ما تراكم من مشاكل بنيوية للقطاع لم يقو على التحليق بتعليمنا للخروج من منطقة الخطر لأن مهندسه الراحل مزيان بلفقيه ببساطة كان يضع عينا على التعليم وعينا أخرى على ضمان انتقال سلس وهادئ للسلطة وسلم اجتماعي للعهد الجديد ،وتلك لعمري مهمة المستشار الحقيقية في قراءة المرحلة ومتطلباتها،وبالتالي أتى الميثاق باهتا مسالما توافقيا إلى أبعد الحدود ،ولم يحسم في الأمور الجدية للمنظومة التعليمية ،وبعدما تدفقت أموال البرنامج الاستعجالي لإنقاذ ما يمكن إنقاذه ضاعت بين مشاريع متعددة ومتداخلة ،وكثرت المدخلات والمخرجات حتى لتكاد تميز النافع من الزائد ،ولم يصل للحجرة الدراسية والتلميذ الذي من أجله رصدت كل الملايين إلا الفتات . ومع إقرار أعلى سلطة في البلد أن التعليم مريض ويزداد مرضه استفحالا ،فإن الحاجة ملحة اليوم لقرارات مؤلمة تتجاوز القبضة الرخوة التي ميزت العشرية الأولى بإصلاح له ملامح استراتيجية واضحة وجريئة ،ويقطع مع سياسة محاولة إرضاء الكل والتوافقات السياسية والنقابية والجمعوية التي تجعل القضية التعليمية لا تبرح مربعها الأول .فمواطن الخمسينية القادمة سيعيش في عالم كوني متقلب وسلاحه الوحيد للحفاظ على ثوابته والصمود في وجه التقلبات الدولية هو العلم والاستقلالية والقدرة على المنافسة حتى يضمن موطئ قدم في عالم الغد. وستكون أمام المجلس الأعلى للتربية والتكوين الجديد مهمة حاسمة لتحديد الأولويات وإحداث سبل إقلاع حقيقي لتعليمنا دون محاباة أو تورية، وذلك حتى يتحقق مضمون خطاب صاحب الجلالة الملك محمد السادس في عيد الشباب الأخير غشت 2013، فالقضية التعليمية أكبر من كل الأحزاب، ولعلها البطن الرخو للدولة المغربية ،وتحتاج إلى متابعة مكثفة بعد قضية وحدتنا الترابية، وتعيين وزير تكنوقراطي على رأس وزارة التربية في حكومة بنكيران الثانية رسالة قوية وواضحة لكل الفاعلين السياسيين والاجتماعيين ، وخطوة صلبة في الاتجاه الصحيح. أولى الملفات الحارقة التي يجب أن تحسم فيها لجنة الأستاذ عمر عزيمان مسألة التعريب ولغة التدريس بعيدا عن فلكوريات السيد عيوش والذي جعل التعليم مؤخرا خبزا يوميا للمغاربة بدعوته الساذجة ، وإلى متى ستستمر المجانية أو وهْم المجانية مع ازدياد أعباء الساعات الإضافية التي تثقل كاهل الأسر،ومسألة الأمازيغية وحدود تدريسها ولو في ظل دستور جديد رسم الأمازيغية لغة ثانية للبلد .ولنا في النموذج الكاتالاني عبرة شفافة لرؤية إلى أي حد يمكن أن تنزلق لعبة التوافقات اللغوية ، وعوض تضييع خمسين سنة القادمة لاكتشاف أن تدريس الامازيغية بمكوناتها الأصلية الثلاث والتي نعتز ونفتخر بها كمكون رئيسي للهوية المغربية ينبغي أن يكون اختياريا وبموافقة الأبوين، فإن الأولوية اليوم يجب أن تعطى لتعميم الانجليزية في مدارسنا منذ السنة الأولى للتعليم الإعدادي وتوفير العدة البشرية لذلك ولو باستيراد أساتذة الانجليزية من دول إفريقيا السوداء والتي تؤمن بعدالة قضيتنا الصحراوية ،وكذا تدريس العلوم الرياضيات والفيزياء والعلوم الطبيعية باللغة الفرنسية منذ المستوى السادس في أفق تدريسها بعد عشر سنوات بالانجليزية في التعليم العالي .فما يهم أولا وأخيرا هو المخرجات الحقيقية للتعليم . المسألة الجوهرية الثانية والتي يمكن أن تطبع الإصلاح الجديد بعنوان واضح لا يقبل التأويل ،وهو تغيير دفة قيادة التعليم لتبتعد عن المحافظية نحو معاصرة واضحة المعالم ، بعدما لم يعد تعليم الألفية الجديدة ينتج سوى شعار رابعة وملحقاتها وخواء فكريا وثقافيا،،ومظاهر متنوعة من العنف المدرسي والأسري والمجتمعي ، وذلك بوسم مضامين التعليم الجديدة بقيم كونية تشجع على التسامح ومقاربة النوع والمساواة وحقوق الإنسان وسمو القوانين الكونية وبجرعة أكبر من الليبرالية الجديدة لإنتاج جيل له كفاءة الاستقلالية وتقدير الذات والقدرة على اللحاق بالعالم المتقدم دون أن يميل مع كل نسمة آتية من الشرق المزعج . وتجفيف مستنقع التطرف الديني والفكري لا يتحقق ببناء الثانويات وتغيير المناهج فقط، بل بالحرص على إيصال الرسالة التربوية سليمة للنشء من طرف كل الفاعلين التربويين دون أن تلتصق بها شوائب الإيديولوجيا المجلس الأعلى للتعليم وبعد مشاوراته المكثفة والمطولة مع عدد كبير من الفاعلين التربويين والنقابيين والمثقفين يمتلك اليوم خزانا كبيرا من آليات التشخيص الدقيق للمنظومة التربوية والحلول الاجتهادية التي لم يبخل بها هؤلاء ، وهي حلول تتنوع ما بين الآني والمستعجل والمدى القريب ،وإذا ما فتحت في آن واحد فسيكون مصيرها ما حدث بالضبط مع البرنامج الاستعجالي الذي لم يترك نقيصة في التعليم إلا وكشف عنها وأوجد حلا لها ذاب مع كثرة التفاصيل واختلاط الأولويات وتشعبها ، من هنا ضرورة وضع برنامج متوسط المدى بأهداف واضحة لا تتعدى الخمسة في الموسم الواحد وبنسبة ملء تقارب المئة في كل جهات المملكة ،وهذه الطريقة المتدرجة في تحقيق الأهداف معمول بها في دول عريقة ككندا وانجلترا والتي ترفع على امتداد السنة ثلاث شعارات تربوية كبرى متوافق عليها يعمل الجميع على تحقيقها وزارةً وصية ومنتخبين وجمعيات مدنية وأحزاب سياسية وإعلام وطني كل من موقعه ، أما فئة الأساتذة فقد اتضح جليا أنها لم تعد تصنع الفارق في المعادلات السياسية والأمنية ،ولم يعد يجمعها في زمن اليتم النقابي سوى المطالبات المادية التي تضمن كرامة العيش والالتحاق بالطبقة المتوسطة ، وبقايا الشيخ يدركون جيدا أن أوان الانخراط في اللعبة السياسية قد قرب ،وعليه فإن الوقت مناسب جدا اليوم لإعادة الهيبة لرجل التعليم من خلال تحقيق الرضى الوظيفي للأستاذ لخلق الجاذبية لمهنة التدريس ،وخلق مسارات للترقي مبنية على المنافسة والاجتهاد والتميز في الفصول عوض الاقدمية والامتحانات المهنية والشواهد الجامعية التي تخلق دملا في الجسد التعليمي .وكذا توحيد ساعات العمل وتجريم الساعات الإضافية ربحا للجهد ،وخلق تعويضات عن أخطار المهنة في القرى والمداشر المنتشرة في ربوع المملكة كحوافز معقولة للاستقرار بالعالم القروي ،والتفكير بجدية في آليات إلحاق التعليم القروي بالجماعات المحلية في كل جماعة قروية ،وإعطاء استقلالية تدبيرية مادية وتربوية كاملة للمؤسسات التعليمية بالمدن ، ورفع جزئي إلى كامل للمجانية صعودا من التعليم الإعدادي إلى التعليم الثانوي ،وخلق معايير واضحة لتقييم أداء كل المؤسسات التعليمية ونشر تصنيفات سنوية بذلك حسب الأسلاك بكل جماعة حضرية ونيابة تربوية لدفعها لتجويد ممارساتها التربوية واستقطاب أكبر للتلاميذ والأساتذة المتميزين،دون أن نغفل طبعا إحداث طفرة حقيقية في نظم التقييم التربوي بمدارسنا.
إن خلوة هادئة للمجلس الأعلى للتعليم أضحت ضرورة اليوم لتسطير الغايات الكبرى للإصلاح المنتظر أملا في اتخاذ قرارات شجاعة تمس كل شرائح المجتمع وفق منظور بعيد يتجاوز معالجة اليومي إلى آفاق رحبة لمغرب الأجيال القادمة التي تستحق أن نهيئ لها ظروفا تربوية أوسع تجعلها جديرة بموقعها الجغرافي والاستراتيجي في هذا العالم الهائج دوما ...