اللغة في رأي المختصين، هي كائن حي، يطرأ عليها ما يطرأ على كل الكائنات الأخرى، من ولادة ورعاية إلى قوة تم ضعف. واللغة في رأيهم، مثلها مثل أي كائن اجتماعي، يتغذى بالمجتمع وحركيته ويقظته، والمجتمع لا يقوم ويزدهر ويتقدم إلا بها. واللغة في التاريخ... وفي الجغرافيا، تتعرض إلى االمؤامرات الحادة... وأحيانا إلى الصراعات القاتلة، التي على أثرها تكون (اللغة) غالبة أو مغلوبة. وحسب الخبراء، فإن الصراع الذي خاضته/ تخوضه الفصحى، في الزمن الراهن/ زمن العولمة، من أجل البقاء والارتقاء، قد يشتد وقد يطول أمده، ولكنه سينتهي حتما لصالحها، ليس فقط لأنها اللغة القوية التي تفرض قواعدها وقوانينها اللغوية الخاصة بالمصطلحات والجمل والتراكيب والمعاني المجازية وغيرها، ولكن أيضا بقدرتها الفائقة على خوض الصراعات الحضارية، من أجل التأثير والارتقاء. من الناحية التاريخية، يمكن أن نذكر في هذا الموضوع، أنه أتيح للغة العربية قبل الإسلام وبعده، فرص كثيرة لوضع هذا الصراع تحت المحك، لينتهي الأمر بانتصار الفصحى بشكل لافت وواضح وجلي. قبل الإسلام نسب الصراع القوي لعدة عقود من الزمن بين الارامية والعربية، انتهى بانتصار الأخيرة. وبعد الإسلام، أدت الفتوح العربية إلى صراعات لغوية عديدة، فاشتبكت لغة الضاد مع اللغات الآرامية في سوريا ولبنان والعراق، ومع القبطية في مصر، ومع البربرية/ الأمازيغية في شمال إفريقيا، والفارسية في إيران والتركية ببلاد الغال، وكانت النتيجة أن خرجت لغة القرآن منتصرة حضاريا وثقافيا وسياسيا، بفضل متانتها وقوتها. السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، على لغة الضاد اليوم: إلى أي حد تستطيع هذه اللغة الصمود في وجه الحرب الشرسة التي يخوضها ضدها أعداؤها...من المرتدين والخوارج، والأقزام وخاصة منهم أنصار الفرنسية في مغرب العروبة، وهل من مبررات لهذه الحرب... وهل تعاني اللغة العربية حقا تهديدا بالاندثار والموت جراء الحرب المفتوحة ضدها من كل الجهات. المتتبعون لهذه الإشكاليات، يشعرون أن اللغة العربية التي شكلت باستمرار عنوانا بارزا للهوية العربية الثقافية والإسلامية، تتعرض اليوم، كما تعرضت في الماضي إلى مؤامرات كبرى، ليس فقط من طرف السياسات المعادية لهذه الهوية، والتي تسعى إلى تركيز لغات الغرب الكولونيالي بقوة السلاح والعلم والمال والتكنولوجيات والمنطق المادي، من أجل مواصلة هيمنتها الاقتصادية والثقافية والحضارية، ولكن أيضا من طرف عملاء السياسات الأجنبية، والسياسات المحلية، التي أصبحت عاجزة عن حماية هويتها أو الدفاع عنها، بسبب ضعفها وانعدام شعورها بالمسؤولية. في نظر العديد من فقهاء اللغة، داخل العالم العربي وخارجه، أن اللغة العربية، لم تعش عصرا مزدهرا كما تعيشه في هذه المرحلة من التاريخ، رغم الحروب والمؤامرات والصراعات المحيطة بها من كل جانب، فهي لغة عالمية، وهي في الطليعة، سواء من حيث الانتشار وعدد الناطقين بها، أو من حيث إشعاعها الحضاري، وهي اضافة إلى ذلك إحدى المقومات الأساسية للهوية العربية الإسلامية. إن هذه المكانة، لا تعود فقط إلى الانتشار الواسع غير المعهود الذي تعرفه لغة الضاد منذ مطلع القرن الماضي، من خلال التدفق عبر وسائل الإعلام المختلفة، وعبر المؤسسات التعليمية والثقافية بجميع مستوياتها إلى غير ذك من قنوات الانتشار التي بلغت مطلع الألفية الثالثة أوسع مدى، إذ يعود ذلك إلى الوضع العلمي لهذه اللغة، التي ساهمت عبر تاريخها الطويل، في بناء الحضارات الإنسانية المتعاقبة، والذي يجعلها اليوم وأكثر من أي زمن مضى، قادرة على مواجهة طغيان حضارة العولمة، بكل الوسائل والإمكانات. إن اندماج اللغة العربية الكلي في شبكة الإنترنت على نطاق واسع، وظهور آلاف المواقع والمعاجم الإلكترونية، واعتماد التدقيق الإملائي والترجمة الآلية، من وإلي اللغة العربية، يؤكد بألف دليل على متانة وقوة موقع هذه اللغة العلمي، الذي يجعل منها لغة العصر الحديث، كما كانت لغة العصور الغابرة. رغما على كل الصراعات والمؤامرات. السؤال المحير الذي يطرح نفسه، أمام المؤامرات التي تحاك ضدها والتي تسعى إلى الهيمنة على الإدارة والاقتصاد أو على التعليم(من الروض إلى الجامعة) وعلى الإعلام والاتصال والحياة الاجتماعية بلغات أجنبية/ استعمارية أو بلغة عامية/ دارجة : ما هي الخطورة القصوى التي تمثلها هذه المؤامرات...؟ طبعا، الصراع الحضاري/ صراع اللغات، كيفما كانت أهميته ومكانته وموقعه، لا يريد ولا يسعى أن يجعل من الشعب الذي يتخد من هذه اللغة هويته، شعبا حضاريا، حداثيا، قادرا على الخلق والإبداع والمشاركة، وإنما يريد ويسعى أن يجعل منه شعباإما أميا متخلفا أو شعبا تابعا لفكر الآخر، خادما لمفاهيمه وقيمه وإيديولوجيته، مستهلكا لتصوراته، ذلك لأنه ليس في إمكان أية لغة أجنبية، أو لغة دارجة/ عامية، كيفما كانت هويتها الحضارية والعلمية، أن تنوب عن اللغة الوطنية/ الفصحى، في التعبير عن الهوية، كما عن الذات الوطنية، لأن اللغة مجبولة بروح الأمة ومسكونة بذاكرتها. إن مكانة اللغة داخل أي مجتمع إنساني، لا تتحدد فقط فيما تقدمه للتعليم أو للإدارة أو للإعلام، ولكن ينظر إليها باعتبارها وسيلة للتفكير والتأمل والتواصل والإبداع، وأيضا باعتبارها الحامل الأساسي لثقافة هذا المجتمع وهويته، التي أصبحت في عصرنا، الشغل الشاغل لمعظم تخصصات العلوم المختلفة. إذا كان الأمر كذلك، ما هي مبررات أنصار اللغة الدارجة في المغرب، في إقصاء اللغة الرسمية/ الدستورية الأولى، عن التعليم، وبالتالي عن الإدارة والاقتصاد، وتركيز لغة عامية/ دارجة على مجالاتها المعرفية..؟ الذين يتحملون هذه المسؤولية الجسيمة، هنا في المغرب، يدعون أن الأمر لا يتعلق بإقصاء الفصحى لصالح الدارجة أو اللغات الأجنبية الدخيلة، وإنما يتعلق بتحديث البلاد، وإخراجها من حلبة التخلف، وهو ما يشترط في نظرهم، لغة أم/ لغة عامية، قادرة على خوض غمار الحداثة والتحديث!! في نظر أصحاب هذا الإدعاء الأخرق، أن الحداثة لا تشترط لغتها العلمية، ومنظوماتها التربوية والعقلية وإنما تشترط "اللغة الأم" بتفاصيلها، وهو ما يعني التنازل عن اللغة العربية/ الرسمية، وعن مقوماتها الثقافية والحضارية. القضية في نظر أصحاب هذا الإدعاء أيضا، تتصل بامتلاك العلم وتحويله إلى أدوات وتجهيزات وأسلحة وإنتاج نوعي، وإلى قفزات حضارية نوعية، من شأنها إخراجنا من حلبة التخلف، إلى فسحة الحضارة والتمدن. وعلى أن هذا الإدعاء، حق يراد به باطل، فإنه حتما ادعاء أحمق/ أخرق/ لا يستند على منطق، وهو ما يقودنا إلى سؤال محير: هل دخولنا عالم الحداثة أو ما بعدها، يتطلب منا تنازلنا عن لغتنا الفصحى/ لغة الحضارة، أي تنازلنا عن الحقوق والأهداف والثوابت المبدئية والتاريخية لعرب الماضي والحاضر والمستقبل؟ هل يتطلب انخراطنا في الحداثة، أن نفرض على مناهجنا التعليمية، اللغة العامية، بما تحمله من أهداف ومصالح وأنماط وسلوكات، وهو ما يؤدي حتما إلى تشويه لغتنا الأم/ اللغة العربية، وسحق شخصيتها وإبادة وجودها؟ إذن، كيف لنا أن نقرأ هذه الوضعية الشاذة؟ والسؤال المحير، هل نضع مسؤولية مواجهة هذه المؤامرة على كاهل النخبة السياسية وحدها، أم أن الأمر يتعلق بكل المجتمع... وخاصة المجتمع المدني، لأنه لا يمكن فرض أية لغة على التعليم/ على الأجيال المغربية الصاعدة، خارج المنطق. إذا لم تجد في البنية السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والإيديولوجية الداخلية، ما يتيح استقبالها وتقبلها، بل واستنباتها وتوظيفها اجتماعيا وإداريا وتربويا على أرض الواقع، لا يمكنها أن تعيش... ولا أن تبقى. فأثر اللغة الدارجة لا يتميز إلا في الحقل السائد، المعبر عن بنيته السائدة. لأجل ذلك تجدنا ندعو الحكومة والأحزاب والمجتمع المدني، وكل المثقفين، بصراحة إلى مواجهة الأمر بصرامة ووضوح، وأن نضع مسؤولية اللغة، على أصحاب المسؤولية، لأن اللغة ليست مجال مساومة أو حسابات سياسيوية خرقاء، فاللغة هي لباس الإنسان، وهي اللسان الذي به يؤكد وجوده ويحرص على خصوصياته الثقافية والحضارية التي حدثت في سياق هذا اللسان، وبه تمت كل المعارف التي هي اليوم تراث الأمة ورأسمالها الرمزي.