بقلم: د. إدريس جندا ري – كاتب و باحث أكاديمي مغربي 1- الكتلة الديمقراطية و المؤسسة الملكية : صراع الخيارات عاش المغرب على إيقاع صراعات مريرة بين تيارات الحركة الوطنية و المؤسسة الملكية؛ و ذلك بعد حصوله على الاستقلال؛ و قد كان هذا الصراع بين خيارين سياسيين؛ خيار المؤسسة الملكية القائم على أساس ملكية تستمد مشروعيتها من الدين و من التجربة التاريخية؛ و خيار الحركة الوطنية؛ القائم على أساس ملكية؛ تستمد مشروعيتها من الخيار الديمقراطي الذي يمنح السلطة للشعب؛ يمارسها عبر مؤسسات ديمقراطية . و هذا يعني أن الصراع لم يكن حول المؤسسة الملكية؛ بل حول طبيعة هذه المؤسسة؛ و ذلك لان الحركة الوطنية حاربت الاستعمار الفرنسي-الإسباني في شراكة مع المؤسسة الملكية؛ في إطار ما سمي بثورة الملك و الشعب؛ بل و قد وصل الأمر إلى الدفاع عن المرحوم محمد الخامس في منفاه؛ باعتباره الممثل الوحيد للسيادة الوطنية . لقد كان الصراع إذن حول طبيعة الملكية؛ التي يريدها المغاربة؛ هل هي ملكية تنفيذية تستمد قوتها من الزخم التاريخي و الديني؛ أم هي ملكية ديمقراطية تستمد مشروعيتها من المُنجَز الديمقراطي الحديث؛ الذي فضل المغرب منذ حصوله على الاستقلال الاصطفاف إلى جانبه. و قد ظهر هذا الصراع منذ البداية في علاقة حزب الاستقلال مع المؤسسة الملكية؛ حينما رفض الملك محمد الخامس مفهوم الملكية الدستورية في نص وثيقة المطالبة بالاستقلال (11 يناير 1944) فرغم إشارة الوثيقة لأول مرة إلى السلطان على أنه (ملك)؛ فإن الوثيقة لم تشر إلى الملكية الدستورية ؛ بل اكتفت بمطالبة الملك محمد الخامس بإقامة نظام شبيه بأنظمة الحكم في المشرق العربي. " و قد كان تحفظ محمد الخامس حول مفهوم الملكية الدستورية راجعا بالأساس إلى كون هذا المفهوم بدا مطلبا ثوريا من الناحية السياسية؛ يصعب قبوله بسهولة من قبل شخصيات نافذة في المخزن". (1) لقد كان الصراع بين الحركة الوطنية و المؤسسة الملكية؛ حول طبيعة النظام الملكي؛ كان يجسد صراعا آخر أكثر عمقا؛ بين منظومتين سياسيتين؛ منظومة التقليد المتجذرة؛ و منظومة التحديث الطارئة؛ و لذلك فإن الاتفاق الذي تم فيما بعد حول مفهوم الملكية الدستورية؛ كان اتفاقا شكليا لم يتجاوز المفهوم إلى ما ينتج عنه من التزامات مؤسساتية؛ " فالاتفاق بين الملك و الحركة الوطنية حول شعار الملكية الدستورية؛ لا يعني الاتفاق بينهما حول مضامينه؛ و حول طريقة وضع الدستور " (2) لقد كان ثقل التقليد أكبر بكثير من مظاهر التحديث السياسي التي جلبها الاستعمار؛ بل إن الاستعمار نفسه التجأ في البداية إلى منظومة التقليد لشرعنة استغلاله لثروات البلاد؛ و هذا هو ما ساهم أكثر في تراجع الفكر الدستوري الحديث؛ ليفسح المجال أمام الفكر السياسي السلطاني؛ الذي سيحتكر المجال السياسي؛ من منظور مؤسسة إمارة المؤمنين كفاعل أوحد؛ يحتكر جميع السلطات. لذلك فرغم تأكيد دستور 1996 في الفصل الأول منه على أن " نظام الحكم بالمغرب نظام ملكية دستورية ديمقراطية واجتماعية " فإن الفصل التاسع عشر من نفس الدستور يؤكد أن " الملك أمير المؤمنين والممثل الأسمى للأمة ورمز وحدتها وضامن دوام الدولة واستمرارها، وهو حامي حمى الدين والساهر على احترام الدستور، وله صيانة حقوق وحريات المواطنين والجماعات والهيئات. وهو الضامن لاستقلال البلاد وحوزة المملكة في دائرة حدودها الحقة. و هكذا يغطي الطابق (العلوي) من الدستور على الطابق (السفلي) بشكل كامل؛ فننتقل بسرعة البرق من ملكية دستورية؛ ديمقراطية و اجتماعية؛ بما تجسده من سلطة تأسيسية في يد الشعب؛ و فصل بين السلطات؛ و ارتباط هذه السلطات بالإرادة الشعبية التي تجسدها الانتخابات ... إلى مؤسسة إمارة المؤمنين؛ بحمولتها التاريخية و الدينية؛ و التي تقوم على أساس احتكار السلطة التأسيسية؛ و الجمع بين السلطات؛ و الارتكاز على الشرعية التاريخية و الدينية ... إن هذا التداخل بين الملكية الدستورية الديمقراطية و الاجتماعية بشحنتها الدستورية الحديثة من جهة؛ و مؤسسة إمارة المؤمنين بشحنتها التراثية المرتبطة بالفكر السلطاني من جهة أخرى. هذا التداخل هو الذي خلق الكثير من التوترات في حياتنا السياسية؛ بين المؤسسة الملكية و النخبة التقدمية؛ لتنجح المؤسسة الملكية أخيرا في ترويض الجناح التقدمي من الحركة الوطنية؛ عبر تجربة التناوب نهاية تسعينيات القرن العشرين؛ و لنعود مرة أخرى إلى نقطة البدء؛ و كأننا مقدر علينا أن ندور لقرون في حلقة مفرغة؛ لا تؤدي إلى أي شيء . 2- من وثيقة المطالبة بالاستقلال إلى حكومة جطو .. تكريس وضعية الملكية الحاكمة لا يمكن أن نستوعب مسار التجربة السياسية في المغرب بشكل أوضح؛ من دون إدراك طبيعة تشكله ضمن تاريخ المغرب الحديث؛ في إطار تبادل الأدوار بين المؤسسة الملكية و فصائل الحركة الوطنية؛ و يتعلق الأمر بثلاث مراحل أساسية: 2-1- من مرحلة الأربعينيات إلى مرحلة الستينيات ارتبطت هذه المرحلة بصياغة وثيقة المطالبة بالاستقلال الصادرة بتاريخ 11 يناير 1944، باعتبارها العقد السياسي الأول بين المؤسسة الملكية و الحركة الوطنية؛ و قد كان هذا التحالف بهدف تحقيق مطلب الاستقلال. و خلال هذه المرحلة تمكنت المؤسسة الملكية من استثمار هذا التحالف؛ لتحقيق الشرعية الشعبية؛ و في نفس الآن تمكنت الحركة الوطنية من اكتساب شرعية سياسية؛ كفاعل سياسي أساسي؛ إلى جانب الملك. و قد كان أول اختبار لعمق هذا التحالف؛ أثناء نفي الملك محمد الخامس سنة 1953؛ حين أصرت فصائل الحركة الوطنية على التزامها مع المؤسسة الملكية؛ و رفعت شعار "رجوع ابن يوسف الملك الشرعي للبلاد" . و قد استمرت هذه المرحلة؛ و استمر معها هذا التحالف حتى وفاة الملك محمد الخامس سنة 1961. 2-2- مرحلة ما بعد الاستقلال حتى حدود التسعينيات بعد حصول المغرب على الاستقلال؛ تحقق الاتفاق بين الحركة الوطنية و بين الملك محمد الخامس على "الملكية الدستورية" كنظام في الحكم؛ لكن هذا الاتفاق ظل ناقصا؛ لأنه ركز على الشعار؛ بينما تناسى مضمونه السياسي؛ حيث كانت الحركة الوطنية تقصد بشعار الملكية الدستورية "ملكية مقيدة"، تمثل السيادة و لا تحكم؛ بينما كان الملك يقصد بالشعار " ملكية تنفيذية حاكمة" تسود و تحكم . و لعل هذا هو ما سيترسخ بشكل أكبر؛ مع المرحوم (الحسن الثاني) الذي شكل نظام الملكية الدستورية على طريقته الخاصة؛ باعتبارها مؤسسة سياسية تستمد مشروعيتها من منظومتين: * منظومة التقليد: مجسدة في سلطات إمارة المؤمنين؛ التي ترتبط بالتاريخ و الدين. * منظومة الحداثة: مجسدة في الملكية الدستورية؛ التي ترتبط بالفكر الدستوري الحديث. لكن هذا المزج بين منظومتين متناقضتين؛ وقعت بينهما قطائع في الفكر السياسي الحديث؛ هذا المزج كان السبب الرئيسي في إعاقة الانتقال نحو الدولة المدنية الديمقراطية؛ و بالتالي تم التأسيس لتجربة سياسية سمتها الاختناق و الجمود . و كنتيجة مباشرة لهذه الوضعية السياسية المأزومة؛ فقد عاشت الملكية خلال هذه المرحلة فترات عصيبة؛ سواء في علاقتها بالمحيط الدولي؛ أو في علاقتها بالمعارضة على مستوى الداخل؛ و لذلك يمكن الحديث بخصوص هذه المرحلة عن فترتين: -خلال الفترة الأولى؛ عاشت المؤسسة الملكية لحظات صعبة؛ نظرا لتظافر مجموعة من العوامل الداخلية و الخارجية؛ نذكر منها: * انضمام رقم سياسي جديد إلى اللعبة السياسية الرسمية (الاتحاد الاشتراكي) بعد عقد مؤتمره الاستثنائي سنة 1975 و القطع مع التيارات الراديكالية (تيار عبد الله إبراهيم و المهدي بن بركة). * الاهتزاز الكبير الذي أصاب المؤسسة الملكية بعد انقلابي 1971 و 1972 و الذين طرحا مسألة علاقة المؤسسة الملكية بالجيش و سلطتها عليه. و هي المرحلة التي ستشهد إلغاء منصب وزير الدفاع و إسناد رئاسة الأركان إلى الملك شخصيا. * صدور قرار محكمة العدل الدولية بخصوص الصحراء و تنظيم المسيرة إلى هذه المناطق سنة 1975. * بداية برامج التقويم الهيكلي خلال الثمانينات مع ما أفرزه ذلك من احتقان اجتماعي قاد إلى انتفاضات شعبية (1981 – 1984). * بروز تنظيمات ماركسية لعبت دورا كبيرا في تأجيج الصراع الاجتماعي و السياسي و في قيادة صراع إيديولوجي ضد الأحزاب الوطنية أدى إلى تعرية انتهازيتها و فقدان مصداقيتها خاصة وسط شباب الجامعات و أوساط المثقفين. -و خلال الفترة الثانية؛ استطاعت المؤسسة الملكية أن تربح الرهان؛ و أن تعود إلى المشهد السياسي بقوة؛ ساعدها في ذلك نجاحها في استقطاب حزبي الاستقلال و الاتحاد الاشتراكي؛ كتيارين أساسيين في الحركة الوطنية؛ خلال المرحلة الأولى . و قد ارتبطت الفترة الثانية بعقد الثمانينات؛ حيث ظهرت في الساحة السياسية المغربية ظاهرة فريدة تمثلت في تفريغ الأحزاب الإدارية وصعودها المفاجئ إلى البرلمان و الحكومة. و لم يتوقف هذا التحالف إلا بعد أن استأنست المؤسسة الملكية من نفسها القدرة على استعادة التحكم من جديد في الساحة السياسية بكاملها . 2-3- مرحلة التسعينيات حتى حدود (2011) تميزت هذه المرحلة بتعديلين دستوريين متتاليين؛ تعديل 1992 و تعديل 1996؛ و قد جاء التعديلان كنتيجة للوضع السياسي الجديد الذي ارتبط بتأسيس الكتلة الديمقراطية في ماي 1992؛ و هو تأسيس سيفرض على المؤسسة الملكية تحديات جديدة؛ ترتبط بسؤال الديمقراطية؛ الذي تم تغييبه من طرف الأحزاب الإدارية التي هيمنت على الحياة السياسية؛ خصوصا و أن زعماء الأحزاب السياسية المشكلة للكتلة الديمقراطية خرجوا من رحم الحركة الوطنية مجسدة في حزب الاستقلال؛ باستثناء (علي يعتة) الذي يعتبر من قدماء الحزب الشيوعي المغربي . و قد تأسست الكتلة الديمقراطية كرد فعل على الاختناق السياسي؛ الناتج عن تهميش المؤسسة الملكية للشركاء السياسيين الأساسيين الممثلين لتيارات الحركة الوطنية؛ و تعويضهم بأحزاب سياسية مصنوعة على المقاس؛ لبناء ديمقراطية الواجهة. و قد كان المدخل النضالي للكتلة الديمقراطية؛ مدخلا دستوريا؛ "فمنذ بداية التسعينات رفعت أحزاب الكتلة شعار الإصلاح الدستوري أولا؛ و تركز النقاش في اتجاه واحد هو: اقتسام السلطة بين الملك و بين المؤسسات التمثيلية؛ وفق تعديل دستوري يمس جوهر النص ". (3)