لا شك أن أوطاننا العربية والإسلامية ابتليت بمرض خطير أرهق كاهل شعوبها ، وتركها في ظلمات لا تبصر إلا صورة العسكر الذي جثم على صدورها لعقود من الزمن ، فلا وجود لدولة دون وجود العسكر الذي تحول من جيش يحمي الحدود ويسهر على أمن مواطنيه من أي تدخل خارجي إلى جيش يتدخل في السياسة ، ويصنع السياسة بعيدا عن قنواتها المتعارف عليها التي تعطي الحق للشعوب لاختيار من تراه قادرا على قيادتها . على مر عقود حاولت الأنظمة الديكتاتورية ترسيخ فكرة العسكر في مخيلة الشعوب في محاولة منها لإنتاج شعب يؤمن بأن العسكر هو الحل الوحيد الذي يصلح لحكم هذه الدول ، حيث أعطت للعسكر قيمة أسمى للعب دور مهم في صنع القادة الذين لا يعصون له أمرا ومن ثم ممارسة السياسة والتدخل السافر في صنعها بعيدا عن إشراك الشعوب في تقرير مصيرها بنفسها. من يتمعن في الإعلان المتعلق بتعديل الدستور الذي يسعى الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة للقيام به والذي يهدف من ورائه إلى إعطاء الفرصة لنفسه للترشح لولاية رابعة، سيتأكد ولا بشك أن العسكر هو من يتحكم في زمام والأمور وما الرؤساء إلا بياديق يتم تنصيبهم لتنفيذ مخططات العسكر التي يحاول من خلالها البقاء في السلطة إلى أجل غير مسمى، فبعد الاستقلال استطاعت مجموعة من الجنرالات الذين كانوا جنودا في الجيش الفرنسي من تصدر المشهد، والتوغل داخل الحياة السياسية ومن ثم السيطرة على حكم الجزائر و اختيار من يريدونه رئيسا على الشعب الجزائري ، والكل يعرف جرائم العسكر التي أدخلت الجزائر في حرب أهلية عام 1992 بعد الانقلاب على صناديق الإقتراع التي فازت فيها جبهة الإنقاذ ماجعل الجيش يتخذ خطوة الانتقام من الديمقراطية والدفع بالبلد إلى المجهول . قد لا نجد دولة في أوطاننا مستقلة عن العسكر، وتتخذ قراراتها بعيدة عن تدخله ، بل هو من يصنع السياسة بأكملها ، فحتى وإن سعت بعض الدول إلى التطلع نحو معانقة الحرية فإن الجيوش تعيدها إلى سيرتها الأولى وتجهض كل أحلامها، كما شاهدنا مع مصر التي شهدت ثورة عارمة يوم 25 من يناير التي أعادت للمصريين الكرامة والديمقراطية ، لكن سرعان ما تدخل العسكر في انقلاب الثالث من يوليو 2013، ليعيد حكم العسكر لمصر كما بدأه الزعيم بطل الانقلابيين جمال عبد الناصر بامتياز ،لتبدأ مرحلة الديكتاتورية التي كان الشعب قد خرج من أجل القطيعة معها ،وها هو العسكر الآن يعود بقوة إلى الميدان ويمارس السياسة كما يحلو له ويعلن الحرب على الشعب ، ويزج به في السجون ويقدم من يشاء منه إلى المحاكمة وعيا منه بأن البطش والتنكيل بالشعب هما الوسيلتان الأساسيتان للضغط على الشعوب للقبول بحكم العسكر . على مر عقود من الزمن والجيوش العربية والإسلامية ترفع شعارات رنانة ضد الغرب وتؤكد عدائها الدائم لأمريكا وحلفائها ، حيث استطاعت بهذه الشعارات أن توهم الشعوب بأنها المخلص الوحيد لها من الهيمنة الغربية التي عانت منها الشعوب على الدوام، أما الواقع فيفيد بلا أدنى شك أن هذه الجيوش كانت سندا للغرب لتنفيذ مخططاته في الدول العربية والإسلامية . كل الزعماء والقادة الذين تعودوا الدجل والخيانة، وتعودوا حمل شعارات المقاومة والعداء للغرب هم يكنون كل الود والاحترام لهذا الأخير، فتوجيه سهام النقد لأمريكا هو جزء من خطة استغلال الشعوب للاستيلاء على السلطة وتثبيت حكم العسكر الذي يضمن لهذه الزعامات عمرا مديدا في الحكم الصوري لشعوبنا، أما الحكم الفعلي من وراء الستار فهو للعسكر الذي لا تخطو الزعامات العربية خطوة إلا باستشارته . الأوطان العربية والإسلامية لم تنعم يوما بالديمقراطية وشعوبها لم تعرف حكما ديمقراطيا يحترم اختياراتها ، بل عانت على الدوام من هذه العصابات التي دمرت الأوطان وأنهكت العباد والبلاد ، وما الثورات الديمقراطية التي انطلقت في العالم العربي وفي دول المغرب الكبير سوى دليل واضح على أن الشعوب عانت الويلات مع حكم العسكر عبر أنظمة ديكتاتورية فاشية لا تراعي في الشعوب إلا ولا ذمة . العسكر تعود التدخل في السياسة في كل من تونس ليبيا مصر وسوريا واليمن والجزائر وغيرها ، وهو من ساهم في تدمير شعوب هذه الدول اقتصاديا ،عسكريا وسياسيا ، بل حتى ثقافيا سعى بكل ما أوتي من قوة لترسيخ ثقافة حكم العسكر، كما يفعل جيش الانقلاب في مصر عبر الدعوة إلى ترديد أسطوانات تعيد العسكر إلى الحياة السياسية بشكل كبير من قبيل "تسلم الأيادي يا جيش بلادي" التي وجد فيها السيسي ضالته لكسب المزيد من الأنصار لمواجهة الشعب الذي يبدو أنه يرفض حكم العسكر. العسكر في الدول العربية والحامل للواء النصر على الأعداء هو من يملك الأوطان وهو من يقدمها للغرب بأثمان بخسة مقابل الاستيلاء على السلطة ، أما قادته فتجدهم صناديد أبطال في التصدي للشعوب وقمعها ، وأنذال جبناء إذا تعلق الأمر بمن يستبيح أوطانهم . مخطئ من يعتقد أن الدول العربية والإسلامية تحكمها زعامات تستمد مشروعيتها من الشعب ، ومخطئ أيضا من يظن أن هذه الدول تملك أحزابا سياسية تمارس العمل السياسي بشكل مستقل، بل الواقع يظهر وبجلاء هذه المسرحيات التي تسمى زورا وبهتانا بالديمقراطية ، كل ما في الأمر أن هناك جيوشا تمارس السياسة كما تريد وتختار القادة الذين تريد وترفض أن يتم استبعادها عن المشهد حتى لو كلفها ذلك التضحية بالشعب تلك هي طبيعة العسكر العربي.