تكاد تكون نسبة حضور الإشهار في وسائط الاتصال، قريبة من نسبة حضور الأكسيجين في الهواء المستنشقعلى حد توصيف روبير كينان؛ فهو يمثل المادة الحيوية والطاقة الدافعة لحركية البرامج والأخبار والدراما والتسلية... حضور جعله يتصيد الفرص للانقضاض على آخر نزعة من الحرية الإعلامية.. وجعلنا نقول وبشكل صريح وتحكمي لا مجاملة فيه، وبدون أدنى ريب أو هاجس، أن الزمن الذي سوقت فيه الوسائط الإعلامية نفسها، بصانع القيم والمبادئ والوطنية.. قد ولى إلى غير رجعة، على الأقل بالنسبة إلى الأجل المنظور زمن كانت فيه البرامج تقيّم كما تقيم السلع والخدمات والأفكار.. زمن كان لقوانين العرض والطلب ومكانة الجمهور المستهدف، مكانة في قُلة الاهتمام وذروة التفكير، زمن كان المستهلك/المتلقي هو سيد نفسه بصورة رشيدة عقلانية، كما زعمت ولا تزالفلسفات الاقتصاد الكلاسيكي في نزعتهاالليبرالية. إن اكتساح قيم الانفتاح لوسائطنا، وتغلغل التعددية إلىجرائدنا وقنواتنا وإذاعاتنا.. دفن تلك المبادئ التي سوقت ردحا من الزمن، فأصبحنا نحس بالغبن والغرر لما أصابنا، وأحلت محلها اتجاهات الحرية والعقلانية، معلبة في البرامج والإنتاجات الدرامية والتسجيلية. وبالموازاة مع هذا التغير، وبروز فاعلين اقتصاديين جدد،كان المعلنAnnonceur ينقب عن أي وسيط إعلامي،يكونأكثر شهرة وأوسع انتشارا وتوزيعا، وأرسخ مصداقية ونزاهة... يمكنه من الإطلالة على الرجل المستهلك، وطرق بابه في جميع الأحوال؛ ليلاً ونهارًا، صباحًا ومساءً.. في بيته وغرفته وسيارته وخلوته وحتى في غرفة نومه.. وعلى الطفل في مدرسته وناديه وملعبه.. وعلى المرأة في سوقها ومطبخها وأعراسها وربما شهريتها.. وعلى الطالب في جامعته ومعهده ووقت فراغه وتجواله.. إنه–أي المعلن-يتزكى، لتحقيق غرضه التسويقي التتجيري، بجميع سمات الكرم والجود والسخاء المسرف، بغية الحصول على مساحة إشهارية Espacepublicitaire، تسهل له نسج علاقة طردية بالمستهلكين، وربط وشائج حميمية بالمتلقين.. وتزداد أهمية المساحة وقيمتها الإشهارية، بازدياد واتساع أعداد المتلقينالمتابعين، سواء أكانوا حاليين أم مرتقبين،بحكم أن المعلن يفتش عن أي وسيلة تدنيه منهم، وتصيرهمفروضا عليهم ولو من غير استئذان..فهو يلهث وراءهم ويجري خلفهم، ويقتفي أثرهم أينما حلوا أو ارتحلوا. وفي مثل هكذا وضعية وهكذا ظروف، تتحول الوسائط إلى سمسار تسليم وتوريد إذعاني لمشاهديها ومتابعيها..إلى كل من يدفع أكثر، والى يملأ حساباتها ويرفع من رقم معاملاتها التجارية، ويرعي خطها التحريري. وتغدو البرامج والحال هذه، تقنية كانت أم ترفيهية أم درامية أم تسجيلية أم رياضية أم تثقيفية.. مجرد غطاء إعلامي هزيل المنظر، كسيح البنية، خاوي الدلالة، يشرئب طمعا إلى استمالة أرقام ضخمة من الجماهير والمتابعين، ولا يعدو أمره أن يمسي مستنقعا لمواد ضحلة، تملأ الفراغ بين مساحات البث الإذاعي أو الصحفي أو المرئي.. حينها يفقد المشاهد المهطع،لذة المتابعة وجمالية الاستمتاع.. ويكسر خيوط الحبكة ويوهنها لدى تلقيه لموضوعاتها..الأمر الذي يقود إلى إحداث قطيعة تواصلية، تسببها تلك الشوشرة المتتالية والتشويشات المملة، المسماة بالفواصل الإشهارية..المعرقلةللاستيعاب العقلي والمتابعة الخطية والاهتزاز الوجداني والامتلاء العاطفي. والنتيجة الحتمية، يبيت المتلقي مجرد أرقام إحصائية، في برامج القياس والتتبع والمراقبة الرقمية، لدى مكاتب من قبيل OJD وCIAUMED و Marocmetrie وIMPERIUMتبيعها لمن يؤدي أكثر.. نعم الأمر يشبه وبكل أسف، سوق النخاسة قديما، حين ينادي "البراح" أو "الدلال"على الزبناء في المزاد العلني، من يدفع أكثر ليفوز بالعبد أو الأمة.. نفس الأمر يحدث معنا في عصر حقوق الإنسان المزعوم .. فالقنوات والجرائد والإذاعات ومواقع الأنترنت وحتى الهواتف النقالة.. تحولنا إلى أنظمة أرقام محمولة في برامج التحليل الإحصائيالتسويقي..أرقام مدخرة في قواعد البيانات، ومراكز البحوث التجارية والإشهارية.. تقوم بتصنيف المتابعين الموالين والمحتملين، حسب جنسهم وعددهم وثقافتهم ودخلهم وجنسهم وأنماط حياتهم وأسلوب تفكيرهم وطبيعة عواطفهم..إلىمجرد عبيد أو تبعا للغة العصر الصناعي الذي نحن فيه، إلى تغليف في علب سردين
قد يماحك بعضهم فيأنالأمر جد عادي، وهو من مقررات شروط العقد ومن بديهيات التجارة.. لكن من حقنا أن نتساءل عن محلنا من الإعراب في هذه التجارة.. وعمن وقع على بيعنا ؟.