الحرية هي دائما و حصرا حرية التفكير لمن يفكر بطريقة مختلفة هذه العبارة المانعة الجامعة كتبها قلم "روزا لوكسمبورغ "،و يمكن تعريف حرية الرأي والتعبير بكونها الحرية في التعبير عن الأفكار والآراء عن طريق الكلام أو الكتابة أو أي عمل فني أخر بدون رقابة أو قيد من قبل السلطات الحكومية بشرط أن لا تمثل طريقة التعبير أو مضمون الأفكار و الآراء ما يمكن اعتباره خرقاً للقوانين والأعراف الخاصة بالدولة أو الجماعة التي سمحت بحرية التعبير وتكون حرية الرأي والتعبير في الغالب مقترنة ببعض الحقوق والحدود مثل حق حرية العبادة و حرية الصحافة وحرية التظاهرات السلمية. هذه الديباجة حول حرية التعبير فرضتها المناسبة وكما يقول الفقهاء"المناسبة شرط"، وهذا اليوم الأربعاء 18 أيلول-شتنبر يؤرخ لليوم الثاني لاعتقال الصحفي و الزميل "علي أنوزلا" مدير موقع لكم (النسخة العربية) و قد تم اعتقاله يوم الثلاثاء من قبل قوات الأمن المغربية بناءا على أمر من وكيل الملك باستئنافية الرباط و عللت النيابة العامة هذا الاعتقال بما يلي "في أعقاب بث الصحيفة الالكترونية لكم فيديو منسوب إلى تنظيم القاعدة في المغرب الإسلامي و الذي تضمن دعوة صريحة لارتكاب أعمال عنف في المغرب و التحريض عليها ، أمر الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بالرباط الشرطة بإيقاف مالك الصحيفة من أجل التحقيق معه ". هذا المقال ليس دفاعا عن صحفي أتبت أنه يملك قلما حرا ونزيها، لكن هو دفاع عن مبدأ حرية التعبير و الرأي هو الدفاع عن الصحافة كسلطة مستقلة سيدة نفسها ، هو الدفاع عن مبدأ دستوري انتزعه المغاربة بدماءهم و تضحياتهم أن يكون القانون فوق الجميع و المغاربة جميعا سواسية أمام القانون.هذا المقال هو نبذ لمبدأ الكيل بمكيالين الذي يطبع سلوك النظام السلطوي و الجهاز الأمني في المغرب ، نبذ لمبدأ الضغينة و الحقد السياسي لدى كهنة النظام المخزني و استغلال هذه القصاصة الإخبارية لتصفية بعض الحسابات التي لم يتم تصفيتها بعد . فاستهداف هذا الصحفي و معه الصحافة الالكترونية هو عملية انتقام متأخرة بسبب الدور الذي لعبته هذه الوسائط الإخبارية في كشف فضيحة العفو الملكي على المجرم دانييل و دورها المتنامي في التأثير على الرأي العام أما قضية الشريط و التهديد الإرهابي فهي حجة غير مستندة على أساس قانوني وواقعي متين . فالمغرب منذ زمن ليس بالقريب تعرض لهجمات فعلية و ليس فقط لمجرد تهديدات محتملة فأحداث 16 ماي بالدار البيضاء و تفجيرات أركانة بمراكش تؤكد على أن المغرب يوجد فعليا ضمن خارطة الإرهاب الدولي، فالمسألة أصبحت معتادة و الارهاب أصبح ظاهرة معولمة فكل البلدان معرضة للإرهاب، لكن اختلاف منهجيات العلاج لهذه الطاهرة هو الذي يمكن هذا البلد أو ذاك من تحصين نفسه ضد هذه التهديدات، فالبلدان التي استطاعت الخروج من دائرة هذا الشبح الأسود هي البلدان التي تبنت سياسات عادلة و إنسانية تجاه شعوبها وتبنت مواقف عادلة في سياساتها الخارجية ، فأمن الأوطان مرتبط جدليا بأمن الإنسان: فعندما تنتهك حرية الإنسان و كرامته و حقه في العيش الكريم، و عندما يدمر مستقبله ويباد حلمه في غد أفضل..و عندما نتعاون على ظلم الأخر مهما كانت جنسيته أو دينه فإننا نعطي عمليا لكل متهور و متاجر بالدم أو الدين أو القيم النبيلة الفرصة لكسب أنصار لدعوته... و في واقعة اعتقال الصحفي أنوزلا يصعب على العقل السليم و المنطق الحكيم التصديق بالطرح الذي تبنته الدولة كمبرر للاعتقال و لتوضبح ذلك سأعتمد على مثالين يبرزان سوء النية في التعامل مع هذا الملف من قبل كهنة النظام : المثال الأول : في قصاصة إخبارية نشرت بموقع وكالة المغرب العربي للأنباء (لاماب) جاء فيها أن وزير العدل والحريات المغربي السيد مصطفى الرميد أبلغ نظيره الإسباني "البيرتو رويس غياردون" انشغال الحكومة المغربية، بسبب نشر موقع جريدة "ايل باييس" الإسبانية، لشريط منسوب لتنظيم القاعدة ببلاد المغرب الاسلامي يتضمن دعوة صريحة لارتكاب أعمال إرهابية بالمملكة، وهي القصاصة التي ستثير فضول كل من اطلع عليها، وستدفعه للبحث عن موقع جريدة البايس وعن رابط الفيديو الذي نشرته، فلماذا لم يعتقل المسؤول الأول في وكالة المغرب العربي للأنباء السيد خليل الإدريسي الهاشمي، لأن موقع لكم أشار بدوره إلى قصاصة إخبارية تتضمن نفس الحيثيات . فدولة الحق و القانون ينبغي أن يخضع سلوك أجهزتها للقوانين التي اتفق عليها المغاربة و الدستور المغربي هو أسمى وثيقة قانونية في البلاد تقر بمبدأ المساواة أمام القانون و تنبذ مبدأ الكيل بمكيالين ..ففي هذه الحالة ينبغي منطقيا اعتقال مدير وكالة المغرب العربي للأنباء بدوره مؤسسته نشرة نفس القصاصة.. ؟؟ (وفي حال ما إذا – لا قدر الله- اعتقلته السلطات الأمنية سوف نشجب اعتقاله لأنه بدوره يزاول الصحافة والإعلام ..و لكن بالمقابل سوف نقر بأننا في دولة تحكمها المساواة في تطبيق القانون على الجميع و تحكمها المصلحة العامة وليس الأحقاد و الضغائن السياسية لفئة ما.. ) المثال الثاني:هناك عدد من السوابق الإعلامية في الإعلام الدولي التي نشرت مواد من نفس القصاصة الإخبارية فالجزيرة مثلا نشرت تسجيلات لزعماء القاعدة دون أن يعتقل السيد وضاح خنفر المدير السايق لشبكة الجزيرة، لماذا لم تعتقل بريطانيا السيد عبد الباري عطوان الذي حاور الشيخ أسامة بن لادن في أفغانستان و ألف عنه كتاب و نشر عنه العديد من القصاصات الإخبارية في جريدة القدس العربي، و في فرنسا و هي الأب الروحي لحكام المغرب قامت مجموعة من المواقع الإخبارية و الإعلامية بنشر أو وضع روابط أشرطة تحرض على العنف و التصدي لمصالح الدولة الفرنسية و لائحة الأمثلة تطول ، فهذه الأشرطة أو القصاصات الإخبارية هي مادة إخبارية لم ينتجها الصحفي أو المؤسسة الإعلامية ... قد يبدو للقارئ أني ابتعد به عن واقعة اعتقال الصحفي علي أنوزلا ، لكني أريد أن أوجه انتباه القارئ المغربي إلى أن حلمه في الحرية و الكرامة و العيش الكريم يسرق منه بالتدريج، و أن هناك تغيير راديكالي يتم تحث الأرض مفاده إرجاع البلاد لمرحلة ماقبل الانتفاضات الشعبية التي تزامنت مع ثورات الربيع العربي، فالدولة العميقة في المغرب وكهنتها يعتقدون أن الفرصة مواتية للانقلاب على النزر القليل من تلك المكتسبات التي حققها الشارع المغربي بعد 2011 مستغلا ضعف و تعثر أداء الحكومة و انفجار الثورات المضادة في بلدان الربيع العربي ...ليس لي سلطة توجيه الاتهام لأحد فالشعب هو الوصي على نفسه و هو مصر السلطات، و هو الوحيد القادر على اختيار ما يناسبه، لكن من الضروري الانتباه إلى أن واقعة اعتقال على أنوزلا هي تتويج لمسار من الانحدار الذي طبع السلوك السياسي للفاعل السياسي الأول في البلاد بدءا من خطاب العرش الأخير و مجموعة من القرارات المتتالية التي عبرت في الأساس عن نية التراجع للخلف .. إذا كانت الدولة تتمسك فعلا بمكافحة الإرهاب فعليها احترام الشروط العلمية و الموضوعية لنسف مبررات اللجوء إلى العنف بكل أشكالها، فقمع حرية التعبير السلمي هو دعوة إلى اللجوء إلى وسائل أخرى للتعبير, فمهما تكن جرأة القلم فهي أسلم وأأمن من التعبير بالحديد و النار، كل السلط قد تجانب الصواب في لحظة ما ، لكن الفقهاء الدستوريين عندما تبنوا فكرة الفصل بين السلط جعلوا هذا الفصل أساسا للتوازن بين السلط و أداة لمنع الاستبداد و عملوا على ضمان قدر من التنافر بين السلط الثلاث حتى تحد كل سلطة من انحراف السلطة الأخرى. و الصحافة اليوم سلطة معترف بها في كل البلاد المتحضرة، و هي كباقي السلط الثلاث قد تجانب الصواب لكن لا ينبغي الحجر عليها، فو وظيفتها الأولى هي إخبار المواطن بكل ما يهمه و لاينبغي و ضع جدول محدد لاهتماماتها فكل أمر يخص الشعب و الرأي العام يدخل ضمن جدول أعمالها ... كل المغاربة يرفضون أن تتعرض بلادهم لأي تهديد فالميزة التي لازال المغرب يتمتع بها هو الأمن و الاستقرار النسبي ، و هذا الانجاز لم تحققه الأجهزة الأمنية أو القمعية، و إنما هو نابع بالأساس من رفض المغاربة للعنف بكل أشكاله، فهذا الشعب لازال يؤمن بإمكانية التغيير السلمي و الهادئ، هذا الشعب لازال يعتبر أن الملكية هي الأقدر على نقل البلاد إلى حكم ديموقراطي رشيد و إلى ملكية برلمانية فعلية و إلى نظام اقتصادي و اجتماعي عادل تسوده الحرية والمنافسة والمساواة. لكن ينبغي دعم هذا الشعور لدى المغاربة بسلوك سياسي واقعي يؤشر على أن منحنى نمو الإصلاحات السياسية والاقتصادية يتجه نحو الأعلى وليس النكوص للخلف، فلا بديل عن توسيع الحرية و ترسيخ أسس و مقومات الحكم الرشيد. أما باقي الأطروحات الداعية إلى الاستبداد و احتكار السلطة السياسية والاقتصادية لن تؤدي إلا إلى انتكاس في الشعور العام بالرضا عن الاداء السياسي العام و هو ما يمثل تهديدا حقيقيا لأمن البلاد و العباد .. فلا داعي لإدخال البلاد لدوامة لن يربح فيها أحد، فالعاقل لا يقاتل ضد الريح، و حرية الشعوب لا يمكن إبادتها أو تجاهلها فهي هبة من الله لعباده في كل مكان و زمان ...